[27] قبس من سماء رمضان
الدكتورة رانية الشريف العرضاوي* |
{ومَن يَعشُ عَن ذِكْرِ الرّحمنِ نُقَيِّضْ لهُ شَيطانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الزخرف/36:
لمّا ذكر الله أحوال الدنيا، وجذبها للإنسان وفتنته، جاء تفصيل حال من استجاب لها وللهوّ فيها. وبلاغة هذه الآية معجِزة في تركيبها من كلمات ذات دلالات عميقة في المعنى.
والبداية من الفعل (يعْشُ) الذي جاء بعد (من) الشرطية. وتركيب الشرط يستلزم حصول نتيجة لفعل اشترطها واستلزمها. والفعل هنا (يعش). والعشيّ وقت من زوال الشمس إلى الصباح. ومنه العِشاء الذي من المغرب حتى العَتمَة. وأمّا العَشا، فظلمة تعترض في العين. وهو مرض يسبب صعوبة أو عدم الرؤية في الضوء الخافت أو الظلام. ويؤدي تدريجيا إلى تقلّص يبدأ في النظر الجانبي، حتى يصبح الأعشى كالناظر من خلال أنبوب. والأعشى الشاعر المعروف صنّاجة العرب. ويقال امرأة عشواء، والعواشي الإبل ترعى ليلا، وقيل: عِشْ ولا تغترّ.
إذن، الفعل يدور بدلالاته في حقل آفة بصرية تحجب الرؤية. والمعنى هنا على وجهين: الوجه الأول (التعامي)، فتكون العين ناظرة كنظر الأعشى لكن لا آفة فيها. وهنا يكون قبل الجزم بمن الشرطية: (يعشو). وحذفت الواو جزما وبقيت الضمة دلالة عليها. وحال الإنسان هنا كحال أصحاب الآية :(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم). فهو يعرف ويدرك ذكر الله ومقامه وشرعه، لكنه يتعامى.
والوجه الثاني للفعل بقراءة فتحت شينه (يعشَ) ويكون قبل الجزم (يعشى). والفتحة دلالة على الألف المحذوفة جزما. وهو ما يكون معناه (يعمى)؛ أي في عينه الآفة، وهو إذن لا يدرك ولا يبصر ذكر الله ومقامه وشرعه: (صمّ بكم عمي).
وبين الوجهين تتفق الدلالة على عمى واقع في بصيرة العاشي المعرض عن ذكر الرحمن. وذكر الرحمن لا يقتصر هنا على القرآن؛ بلْ هو يعني تذكّر الرحمن، واستحضاره في قلبه وعظمته وجلاله. ومن ثم يكون كلّ شكل من أشكال الإعراض عن الرحمن. حتى يغفل القلب ويصير مستحقا للجزاء الذي أتى في فعل الجواب الشرطي (نقيّض). وتأمّل معي هذه المفردة القرآنية البديعة. فالنقض كلمة تدور في فلك له ثلاثة أقطاب: أولها نقض العهد بمعنى الرجوع عنه بعد إبرامه. وثانيها الهدْم ومنه البناء المنقوض. وثالثها الصوت الذي هو للبازيّ والوزغ والعقرب وتشقق الجدران والعظام ومفاصلها. وبجمع الأقطاب الثلاثة: نقضٌ وهدمٌ وصوتٌ، يكون القارئ عبرها أمام أبرز فِعال الشيطان في الإنسان: (نقيّض له شيطانا). فالشيطان خبيث غادر ينقض عهده، ويتخلى عن صاحبه يوم المحشر، ويتركه وحده يتحمّل وزره وسوء فعله. وهو الهادم لكل خير فيه، ولكل بناء من إيمان وثابت عقيدة، يتركه مزعزعا، خائرا، ضعيفا، بلا ثابت أرض يقف عليها. الشكّ منهجه، والإنكار ديدنه، والتخلي عن دينه سبيله. ووسيلة الشيطان في ذلك الوسوسة، التي هي صوت ووارد في نفس هذا العاشي يصدّه عن ذكر الله، ويشغله بالهوى بدلا من اشتغاله بذكر الله الواسع.
فيصبح حال المُعرض حالا متناثرة متهيئة بفعل الإعراض لاستقبال صوت الشيطان وسوء فعله.
بل إنه يكون له (قرين). والقَرن اجتماع الشيئين وتلازمهما، والقرَن الحبل الذي يشدّ به، والشيطان له قرْن. فانظر إلى دقة المفردة، فملازمة واقعة من ذي قرن يشد ويأسر فيها صاحبه المدبر عن الله، كل ذلك معنى تحتمله الكلمة.
وبذلك يفقد المُدبر سكينة القلب المتحصّلة من ذكر الله، ويؤسر في هوى يسكبه وسواس الشيطان فيغطي قلبه فيعشو أكثر وأكثر. وهو يظنّ أنه على خير، ويتعامى ويتعالى عن ذكر الرحمن، بل وأهل ذكره. ألا ترى في هذا المعرض معاداة غير مُبرّرة لأهل الذكر، وكأنهم النموذج البصير الذي يرى فيه تعاميه وتعاليه عن الحق، حتى يصدق بأنه على خير. ومصداق ذلك قوله تعالى: ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا¤الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا). وبذلك يتمّ الجزاء من جنس الفعل.
والله أعلم
_______________
* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.