سنابس التي لم تعد سنابس..! عن "القُمبار" و "الشيخ والبحر" وماء المدّ يلاطم الجدران
حبيب محمود
قلت له “وَدْ خالُكْ أبغاكْ مَحْرَمْ”..! سُمرتي الرِّيفية غير كافيةٍ لإزاحة سوء فهم الناس، حين يشاهدون غريباً يتجوّل في “سنابس” ويلتقطُ صوراً. نعم؛ بقليلٍ من الكلامِ أنجح في تصحيح الفهم عند الضرورة. إثباتُ عرقيَ السنابسيّ يسيرٌ.
إنها سنابس. ثمة خارطة أسماءَ بإمكاني سردها للسائل. آل دغام، الهاجري، الجبران، الراشد. ولكن لا حاجة لدخول “ضرورة”. ثم إن “المحرم” دليلٌ مُفيدٌ. وهكذا صحبني علي موسى دغام في “زرانيگ”(1) البلدة. عرف ما أريدُ فسهّل المهمة..!
سنابس الأولى تجدّدت إلى حدٍّ لم يبقَ فيها إلا آحاد من معالم كنتُ أعرفها. بقيت المساحات والمضائق والمنعطفات كما هي، بيد أن المباني “العربية” تسلّح إسمنتها. الحياة تتغيّر، والصغار يكبرون، والمكان لا يبالي بذاكرته كثيراً.. أو هكذا يبدو لي..!
ثمة 40 سنة تفصلُ الواقع عن الذاكرة. مشاهد مبلّلة بـ “المايَهْ”. مدُّ البحر جامحاً يضرب جدران البيوت، وتدخل مياهه حتى أمتارٍ داخل “الزرانيگ”. “محامل” الخشب تتناثر قُبالة الساحل، وعلى طينه. مُلوحة الصيف في الرطوبة. “سّاليات”(2) معلّقة على الجدران.. “گراگير” (3) صيد متأهّبة لنزول البحر..!
كانت سنابس تضاجع البحر حرفياً. المبيتُ فيها، ولو لليلة واحدة، يسجّل مشاهد مكرورة حميمة جداً.
ثمة مشهد كان يتكرّر أصيلَ كلّ يوم. مشهد “الشيخ والبحر” السنابسيّ. صيّادٌ مسنٌّ يستقل حماراً يجر عربة “گاري”. كأنّه آتٍ من لا مكان في عمق البحر الضحل. يعرف الحمار طريقه في الذهاب والإياب. كان يأتي من “حضرته”(4) المنصوبة داخل البحر للصيد.
بعد صلاة المغرب؛ يتقاطرُ شبّان البلدة، أفراداً ومجموعاتٍ، صوب البحر. ما إن تتعمّق الظلمة؛ حتى تتناثر في صفحة بعيدةٍ من البحر أضواءُ “صراجات الگـُمبارْ”(5). يعود الشبّان قبيل منتصف الليل حاملين “تـَنَكات” السمك..!
ولا شيء من سنابس بقي من هذا.. حتى “القمبار”.. حتى مشهد البحر في الليل منقطاً بالضوء..!
عدتُ، وعلي موسى، مبللين بعرق الرطوبة، كأننا “متسبْحين بعرگ”..!
بصمة بحرانية..!
ومنارات مساجد “سنابس”، أيضاً، تُحيل الانتباه إلى منارات مساجد البحرين. بالذات في قبة المنارة. ولا داعيَ للحديث عن منارات سائر مساجد القطيف الأخرى، لسببٍ موضوعيٍّ صرف؛ هو أن القطيف ليس لديها إرثٌ معماريٌّ يخصّ منارات المساجد على نحو واضحٌ..!
ربما ليس ثمة استثناء، في هذا الصدد، إلا في مسجدٍ واحدٍ كان يُسمّى “مسجد المنارة” أو “جامع المنارة”، يقع إلى الجنوب الغربي من القلعة. وعلى الرُّغم من أن المسجد شُيّد في القرن الثامن الهجري؛ فإن وجود المنارة فيه منذ التأسيس أمرٌ لا دليل عليه. كانت المنارة بارتفاع 30 متراً، وحتى عقودٍ قليلةٍ كان أثر قصف قذيفة ظاهراً في أعلاها، من حربٍ قديمة.
وعدا هذا الجامع؛ فإن المساجد القطيفيية القديمة خلت من المنارات والمآذن. وكان تصميم كلّ منها يعتني بمساحة مفتوحة إلى الشرق من المساحة المسقوفة، وفي زاويةٍ من الجزء المفتوح تُبنى درجات قليلة يُرفع الأذان من أعلاها. وغالباً ما يكون المؤذّن مرئياً من مستخدمي الطريق.
وعلى هذا؛ فإن القطيف ليس لديها إرثٌ من معمار المآذن. ويمكن القول إن المآذن المنتشرة في المساجد، راهناً، إنما هي أشكالٌ معماريٌّة مجلوبة أو ملفّقة. وهو ما يُوضح سبب عشوائية التصاميم، وانعدام الشخصية المعمارية في مآذن المساجد، بحيث لا تُشبه مئذنة مسجدٍ مئذنةً أُخرى.
لكن الأمر مختلفٌ في سنابس. على الأقلُّ هناك أربعة مساجد ذات تصاميم متقاربة جداً في المآذن. مسجد الشيخ محمد، مسجد عيسى بن مريم، مسجد الصادق، مسجد الحسن. وكلها تقع في مساحة صغيرة من البلدة الساحلية. هذا التقارب الفنّي مردُّه إلى البصمة البحرانية.
أميل إلى الظنّ أن بيوت سنابس القديمة؛ بناها بحرانيون، أو مهاجرون بحرانيون. الملامح العامة تُشبه البيوت القطيفية، في اعتماد الجدار على “نگايلْ”، وإحداث فراغات لـ “الروازن” بين “النگايلْ”، واستخدام طبقة من الحصى البحري تعلوها طبقة من مادة البناء.
لكنّ التصميم يُميّز “الروزَنَهْ” من خارج المنزل بظهور جزء من عمق الفراغ. وهذا غير معمولٍ به لدى البنّائين القطيفيين الذين يُخفون ملامح الجدار من الخارج، فلا يظهر أثرٌ لـ “الروازن”.
إذا صحّ الظنُّ؛ فإنه مبرّرٌ بالطبيعة التي تتسم بها البلدة التاروتية الساحلية. بينها وبين البحرين شراكة سكّانية قديمة، ومتشابكة، ومحكومة بالبحر على ما يعنيه الغوص والصيد، وعلى ما فرضته الحقائق القديمة من جذبٍ للسكّان وطردٍ لهم، بين أحوال الأمن والاضطراب..!
كُتبت هذه الإشارات في 15 يوليو 2017
——————
(1) زرانيگ: جمع “زرنوگ”: زقاق في الاستخدام القطيفي. وفي اللغة: الزُّرنوق هو النهر الصغير. ولعل في استخدام القطيفيين انزياحاً دلالياً.
(2) ساليات: جمع سالية: شبكة صيد.
(3) گراگير جمع گرگور: قفص صيد.
(4) حضرة: الصيد بـ “الحضار”، وهو سياج من السعف يُشيّد في موقع شبه ضحل تدخله الأسماء وقت المدّ وتعجز عن الخروج منه.
(5) الگمبار: صيد يدوي ليلي يُستخدم فيه قفص بلا قاعدة، وله فتحة عُلوية. يُطبق الصياد القفص على السمكة، ثم يأخذها بيده من الفتحة العلوية.