[17] قبس من سماء رمضان

الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*

 

{وكُلّ إنسانٍ ألزمناهُ طائرَه في عنقه ونخرجُ لهُ يومَ القيامةِ كتابًا يلقاهُ منشورا} الإسراء/13:

لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى تفصيله لكل شيء من أمر الدين، والإيمان، والتوحيد، والتكليف، والجزاء، كان أن جاء بالتذكير بما يعقب ذلك من محاسبة الإنسان على قيامه بحق هذا الدين أو عدمه. فجاءت الآية الكريمة، لتصوّر حالا عميقا من أحوال حياة الإنسان، بأسلوب مجازي بيّن. إذ تؤكد على نوع من اللزومية، هي لزومية الإنسان لعمله الذي يقدمه، وفي قول آخر، لزومية الإنسان لما قُدّر عليه من خير وشر. وفي التركيب البياني للآية لطيفة، فالبداية بلفظ العموم (كُلّ) دليل قوي وبرهان قاطع بأن الاستثناء من هذا التقرير مستحيل. ولا مفرّ من الدخول في حكم العموم هنا. ثم انظر إلى الفعل (ألزمناه)، وهو من لزوم الشيء وطول مُكْثه. ومن المعلوم أنّ الإلزام على ضربين كما يقول الراغب: إلزام بالتسخير من الله تعالى أو من الإنسان، وإلزام بالحكم والأمر. والدلالة في اللزوم هنا دلالة التصاق للحكم الواقع على المفعول به. ولكن بماذا التصق كل إنسان والتزم؟

إنه (طائره في عنقه)، ويقول المفسرون في ذلك: هذا على سبيل الاستعارة التصريحية، وباب واسع في المجاز، ويعني العمل والقًدَر. لكن لماذا يشبه العمل أو القدر بالطائر تحديدا؟ ويجعله معلقا على العنق! وهنا مكمن البلاغة، فهذا الكلام العزيز إنما نزل على العرب وبلسان عربي مبين، فكان أن ناسب هذا التشبيه ما تعارفت العرب على تداوله مجازا. فقد كانوا يعبرون عن (حظ) الإنسان بالطائر، بل كانوا يتشاءمون في خروج من سارح الطير شمالا، ويتفاءلون من بارحه يمينا. فالطير عندهم رمز للعمل، وللقسمة الملازمة للإنسان، ونصيبه من الحياة. وكما يذهب أبوعبيد والفرّاء إلى أنّ ذلك من مناسبة المعنى التداولي للتشبيه، وموافقته لحال لسان العرب وبلاغته. من جهة أخرى، الطير كائن فيه معنى الحرية من خلال التحليق والطيران، والإنسان وإن كان إلى قدره يسير، لكنه مختار بين الخير والشر، وقد تهيأت له أسباب ذلك، فحريته مكفولة بتقدير الله. كما أن الطير في حركته للعلو، إشارة للسمو الذي ينبغي أن يكون عليه عمل المؤمن، وهو في ذلك أقرب لعلو الروح في حياتها واختياراتها على الجسد الطيني في حياته واحتياجاته. خاصة وأنّ الروح هي مادة السمو، والجسد هو مادة الاختبار.

وقد جعل اللزوم للطير على المجاز في (عنقه)؛ لأنّ العنق هو مكان القلائد والأطواق والأغلال، وهو حيث الربط واللزوم المكشوف الظاهر. فكأنّ نوع العمل يظهر على الإنسان، ويؤثر في الحكم بسيادته وشرفه. وما يرى من معلّق على العنق هو رسالة لما يعتقد به المرء، ألا ترى أهل الصليب يتقلدونه على أعناقهم ليكون قريبا من مكمن معتقدهم أي القلب، ويعبر عن معتقدهم.

فكان التمثيل البياني عبر هذا المجاز دقيقا في تمكين معنى لزوم عمل الإنسان لحاله، في حياته قبل مماته، بل ودلالته على مآله من خلال خياراته التي هي بقدر الله سبحانه وبحمده.

والله أعلم

_____________

* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×