أبي.. القلب المجبول على الإيثار

للصالح الخاص عند الإنسان ومصلحته الشخصية أولوية قوية بين العموم البشري، أما التسامي إلى الصالح العام فهو معنى قيم عند الإنسان وحاضر بين الشعارات البشرية ولكنه ذو اولوية ضعيفة بين الجموع البشرية..

الإنسان يولد على فطرته، وقد يكون ما فيه من حب الذات والبناء لها والتخطيط في مقدمة أهداف حياته، وليس هذا ما أعنيه بـ “الأنانية” أو التحصيل على حساب الآخرين، لا بل محبة النفس الطبيعية الجارية عادةً بين البشر..

وهذا ما يجعل مشاة طريق الصالح الخاص أغلبية ساحقة بين البشر.

اما سالكو طريق الصالح العام، الراكضون من أجل غيرهم، فهم اقلية قليلة..

يكدحون في هذا الطريق كأحصنة السباق، لا يلتفتون يميناً ولا يساراً لمصالحهم الخاصة.. هدفهم الكبير هو الصالح العام والخير الكبير بكل معانيه من عدل وسلام وتطور وحضارة للعالم من حولهم.

وهؤلاء كان منهم والدي الراحل باقر الشماسي..

كان اهتمامه بمصالح ومستقبل أهل بلده يأتي الأول دائماً في حياته، أما السعي وراء مصالحه الذاتية فكان يأتي دائماً في مراتب ثانوية. أفنى حياته في كفاح وكتابات ومطالبات بحقوق أهل بلده.

لم أره يهتم في حياته بأكثر من صالح الناس، سواء كان على مستوى بلاده أو الوطن العربي شاملةً..

حتى شاشة التلفاز لم أره يوماً يستخدمها للترفيه، كانت دائماً له فقط مصدراً لتعقب أخبار الوطن العربي، يحزن لكل حزين صغير أو كبير قد يحدث داخل الحدود العربية، ويفرح لكل خبر قد يعود بخير لمواطنيها.

والدي ليس نبياً، ولكنه انسان خلق مفطوراً مجبولاً على حب الغير والتضحية من أجلهم، ولم يستطع ان يخالف تلك الفطرة ابداً.

قلبه يحمل الكثير وعقله مستنير ومتقدم بالفطرة على زمنه.. ومع حب الغير فطر أيضاً على إدمان القراءة وجُبل على حب الكتابة.. ومع اجتماع قلب وعقل ـ كهذين ـ وُجد وطني عظيم..

هكذا يوجد الوطنيون الحقيقيون في الحياة على مدار الأزمان، هكذا يوجد الراكضون وراء تحقيق الصالح للعام. وفي الحقيقة هم من بهم ترتقي الشعوب ويرتقي الإنسان، ومن دونهم تسقط الشعوب في هاوية الخذلان.

مثلهم مثل العلماء وصانعين التكنولوجيا، بهم تتطور الآلة في يد الانسان، وانا هنا اقول الآلة و ليس الانسان.

إن مسار تطور الآلة ليس ـ بالضرورة ـ مسار تطور الإنسان، لأنها قد تكون له وقد تكون عليه و قد تكون لغيره دونه، فهي في النهاية ستباع لمن يدفع.

لكن الوطنيين يركضون وراء صالح الإنسان، ويسعون وراء تحقيق العدل لمن حولهم، وبالعدل يستقيم حال البشر. العدل في كل شيء، في الحقوق، في المادة في العلم. الوطنيون مهووسين بالعدل و رؤية المجتمع ينعم بالعدل.

إذا رأيت أمة من حولك تنعم بالعدالة والخير والحضارة؛ فاعلم أن تاريخها كان مليئاً بالوطنيين العظماء والعكس صحيح.

وإذا رأيت أمة ترزح تحت الظلم والظلام؛ فاعلم أنها لم تنعم بذاك العدد من الوطنيين المخلصين. الحسبة بسيطة وواضحة لكن ما يعتمها هي شهرة التاريخ.

الساعي وراء الصالح العام الحقيقي لا يحصل لا على شهرة ولا مجد ولا تكريم على الاقل في فترة حياته.

بينما من يحصل على المجد والشهرة وتعود على الاحتفال بأمجاده؛ لا يمكن أن يكون وطنياً عظيماً، الراكض وراء الحق العام لا يسعى وراء المجد والشهرة فلا يتحصل عليها ولا يحظى بتلك الاحتفالات.

وتذكر دائماً أن التاريخ يكتبه المنتصرون. لهذا صعب أن يكون التاريخ حقيقياً دائماً.

ولهذا؛ وبسب تلك المعادلة بين مغمور مشغول بالصالح العام ومشهور زائف قد تكون سبب ما ارى من حزن في حياة والدي الكاتب المكافح العظيم الكبير وحزن عليه يحفر في قلبي.

والدي.. انت لست فقط والد انت كاتب واستاذ تاريخه حافل بالوطنية والكفاح لأهل بلدك والحياة والاحداث. حياتك يا والدي عالم كبير وقد تكون ملحمة بحد ذاتها.

ولكن يظل الابن لا يعرف كل شيء عن حياة والديه، وكنت كل ما أكبر أسمع عنك وعن حياتك وعن تضحياتك وعن خدماتك لمجتمعك وعن كفاحك للغير وعن قصصك وملحمياتك الكثير. كأن كل ما اخبرتني عنه في حياتك لم يكن إلا نقطة من سيرة أخبارك.

لذا قد لا استطيع أن أقص تاريخك مثلي مثل من عاصروك وعاصروا كفاحك، و لكني لم أر في حياتي معك الا حياة وطني، ولم أسمع منك إلا كلاماً وطنياً مخلصاً، ولم أر منك غير صفات فارس شجاع اصيل ونبيل.

قد حولت طفولتي لمنتدى يحتفي بنقاشاتنا وتساؤلاتنا في قضايا لا تتوقف.. ومازال التساؤل والنقاش الفكري دائماً حاضراً بمنزلنا، وعندما نتناقش تضحك أمي و تقول جميع أبنائي ورثوا صفاة والدهم.

منحتنا قدراً من صفاتك النادرة، وهي ما نشتاق إلى وجوده اليوم.

لن نستطيع أبداً ـ يا أبي ـ أن ندرك إيثارك للعالم من حولك على نفسك و تكبدك الصعاب من أجل الغير.

أخبرني ـ يا والدي العزيز ـ كيف أجزيك حقك ولو القليل..؟ أخبرني كيف أجزيك حق عطائك وكلماتك وثقافتك وتضحياتك…؟

كيف أنصفك وأفعل ما لا يفعله التاريخ لأبطاله.

أخبرني يا والدي الراحل.

ابنتك

هالة الشماسي

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com