[15] قبس من سماء رمضان

الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*

 

{وَلْيَتَلَطَّفْ} الكهف/19:

اعلم أنك عند الوقوف على هذه الكلمة في القراءة، تكون قد وقفت على منتصف القرآن الكريم تماما. فقد ذكر ابن عاشور في تفسيره أنّ التاء من هذه الكلمة هي نصف حروف القرآن عدًّا. ولمّا تكون هذه الكلمة تحديدا، في منتصف حروف التنزيل حتما تستدعي من القارئ وقفة تأمّلية، ليدرك ما فيها من لطائف. فكل وسط لشيء هو من أنفَسه.

والكلمة مكونة من: لام الأمر، والفعل المضارع المجزوم بعدها، والفاعل الذي هو الضمير المستتر (هو). وهي حكاية عن حوار أصحاب الكهف بعد يقظتهم من نومهم الممنوح حكمة وعناية من الله، لحفظهم وجعلهم آية. إذ يقرر أصحاب الكهف أن يخرج أحدهم إلى المدينة ليأتي بحاجتهم من الطعام، وهم لا يعلمون بالزمن الذي قضوه في كهفهم. فيوصي أحدهم المرسول بأن يتلطف. وتذهب بعض التفاسير إلى أنّ المعنى أي يسير بخفة وستر في دخول المدينة حتى لا يلفت الأنظار، خوفا من أذى الكافرين.

وبالنظر إلى جذر الكلمة التي توسطت التنزيل، نجدها تعود إلى (لَطف يلطُف والْطف لُطفا وتَلَطُّفا). والفعل الوارد في الآية الكريمة جاء بزيادة تاء المفاعلة فيه. وكما يقول شيخ البلاغة عبدالقاهر الجرجاني رحمه الله :”كل زيادة في المبنى هي زيادة في المعنى”؛ فمجئ التاء هنا تعني زيادة فعل اللطف وتكلفه والحرص عليه. واللطف من الرفق، ولطُف بالضمة تعني صغُر ودقّ. ولطيف الكلام ما غمُض معناه وخفي. وسواء كان المعنى في الآية الترفق في الكلام أو الخفة والستر والكتمان، فإن للكلمة إضاءة مهمة في فقه المعاملات. فاللطف والترفّق في مكانه الصحيح من سمات المؤمن، وما نُزع اللين من شيء إلا شانه، ولا كان في شيء إلا زانه. واللطيف من أسماء ربنا -سبحانه وبحمده- ومعناه كما يقول ابن الأثير: ” اللطيف هو الذي اجتمع له الرّفق في الفعل، والعِلم بدقائق الأمور والمصالح، وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه”. فسبحانه يدبّر أمر عباده بالتدبير الخفي، الذي فيه من جميل البِرّ، وتسهيل الطاعة على العبد، فينفذ تدبيره في صغير الأمور وكبيرها.

وكم يحتار عقل عبده في حلّ عُقد ظنها مستحيلة، وفكّ مغاليق أبواب آيسَ من مفاتحها، وكم له مع عباده -سبحانه وبحمده- لطف خفي مُعجز، ينقلهم فيه من ضيق الصدور إلى انشراحها، ومن كدَر البال إلى راحته. ومن الجميل أنّ عامة المسلمين إذا ضجّ بهم كرب ردّدوا بحسن ظنّ يالطيف حتى يُفرج الكرب، وهو السميع البصير.

وأختم، إنّ اللطف منهج اعتدال في العطاء قبل الطلب، فالطالب عادة يتلطّف ليدرك حاجته، لكنّ اللطف في العطاء مقام عزيز، لا تناله إلا نفس كريمة، تستغربُ لطفها ورفقها وهي الباذلة. وهذا ما يخالف طبائع الناس في خشونة مقام العطاء عندهم، ولطف مقام الطلب، ولكنّ عبادا أدركوا لطف ربهم في عطاياه، ففقهوا كرم اللطف في البذل للمحتاج.

والله أعلم

______________

* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×