[10] قبس من سماء رمضان

الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*

 

{قُل بِفضل اللهِ وبرحمَتهِ فبذلكَ فَليفرحوا هُوَ خيرٌ ممّا يجمعون} يونس/58:

لمّا امتنّ الله على عباده بذكر صفات القرآن الكريم، والتأكيد على أنه موعظة من الله، وشفاء لما في الصدور، وهدى لكل خير، ورحمة للمؤمنين، كان من المناسب جدا أن تأتي هذه الآية لتلفت العقول لحقيقة ومسلّمة قد تغيب. هذه الحقيقة هي أنّ المنّة العظيمة، التي هي القرآن الكريم، بكل ما يعتمله من خيري الدنيا والآخرة هو ما يعدّ سبب الفرح وليس أيّ شيء آخر. فجاءت الآية في تراتبية بليغة؛ إذ قدمت المتعلقات الجار والمجرور (بفضل الله وبرحمته) على الفعل (فليفرحوا) توكيدا وتكرارا وحصرا لجعل علة الفرح في حصول هذه النعمة. ويكون الترتيب في غير القرآن: فليفرحوا بفضل الله وبرحمته. أيضا؛ أعطى التقديم لفتة بليغة للعقول، حيث تقدم سبب الفعل على الفعل، فتكون سببية الفرح جلية للقارئ ومعللة تحقّق الفعل على التأكيد والقطع.

والفرح هو شعور بالبهجة مع حصول خفّة في القلب وكشف وانشراح. والانشراح يعني الاتساع والراحة. وفي لحظة الفرح عادة، يتوسع المرء في فعاله، ولربما خفّ في تقدير الأمور وخلط، وهذا ما يبرّر مجئ الفرح في سياق مذموم في كثير من القرآن الكريم: (ولا تفرحوا بما آتاكم/وفرحوا بالحياة الدنيا/ ذلكم بما كنتم تفرحون…) بل أكثر من ذلك في قوله تعالى: (إنّ الله لا يحب الفرحين). بينما لم يرخص في الفرح إلا في قوله : (فبذلك فليفرحوا/ ويومئذ يفرح المؤمنون). فهل معنى ذلك أنّ الفرح مذمّة على الإطلاق؟ ولماذا جاء هنا إذن مقرونا بفضل القرآن وعظمة نعمته ونعمة البعثة النبوية؟

الجواب في لطيفة لغوية تظهر من تأمّل الآية وسياق الكلمة. فالفرح في أصله كما هو معلوم ضد الحزن، وهو ليس كالسرور؛ فالسرور يكون بما هو نفع أو لذة على الحقيقة. وقد يكون الفرح بما ليس بنفع ولا لذة، كفرح الصبي بالرقص والعَدْو والسباحة مما يتعبه وقد يؤذيه. وقد يكون الفرح بما لا حقيقة له، والسرور ليس كذلك، فهو لا يكون إلا بحقيقة. إذن؛ دائرة الفرح قد تحتمل الأذى، والطيش، والخفة، بل ربما المخاطرة. وهو ما قد يورد البطر والثقل. لهذا كان قارون من الفرحين بطرا واستخفافا واستكبارا. وهو باب واسع للتوهم والوهم. لذلك كان استخدام الكلمة في سياقات المذمة أوسع. لكنها في هذه الآية من سورة يونس، خرجت إلى دائرة الثناء والأمر بالفرح، عبر تقديم المجرورات (بفضل الله وبرحمته فبذلك) حين حصرت الفرح في باب الروحانية التي هي أبعد ما تكون عن كل أسباب الفرح المذموم. فالفضل من الله هو القرآن الكريم، والرحمة هي رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. وكون الفرح بسببهما، فمفارقته لكل علل البطر أمر قاطع لا محالة.

وهذا ما يعني أننا أمام نوع آخر من الفرح؛ لا يكون سببه شيء من أحوال الالتذاذ الجسماني الزائل بزوال سببه، أو الالتذاذ المخلوط بألم سابق أو لاحق أو آنيّ؛ بل هو التذاذ آخر، جوهره الروح المتصلة بالفضل والرحمة. الفضل الذي هو القرآن ومناجاة رب العالمين به. والرحمة التي هي رسولنا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وفرحة اتباعه وذكره. وفي هذا المقام، سيكون الفرح شعورا بالانشراح مع خفة في الروح وكشف للغمّة. والخفّة هنا لا تتعلق بفعل ما يخالف الطمأنينة، أو يفارق السكينة؛ بله هي ما يكون في نقاء السريرة، وجمال وقْع المرء عند أهل الأرض والسماء. ألا ترى مرات إنسانا فتنظر في وجهه فينشرح صدرك، ويذهب غمك، ثم إذا تبسّم في وجهك، أشرقت لك الدنيا، فنسيت همّك. فإن حدّثك، ولاطفك، بثّ في روحك حياة، ولثم في نفسك جرحا فطاب. وأنت لا تدري لذلك سببا سوى أن تقول: روحه خفيفة. هو ذلك الفرح الساكن في قلبه بفضله وبرحمته سبحانه ما يبث فيه تلكم الخفة، ويعطي له هذا القبول.

إنه فرح الالتذاذ بمناجاة رب العالمين وبكلامه العظيم، مناجاة لها حلاوة يعرفها الصالحون، وقد ذكرها إبراهيم بن الأدهم فقال :” نحن في سعادة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم”، وهي ما عبّر عنها ابن القيم في مدارجه بقوله: “إنّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة” وعنى بها ذكر الله ولذيذ خطابه. هذا الفضل القرآن الذي نزل على الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، هو خير مما يجمعون. وكم من جامع للدنيا، محرز لملذاتها، تُحبس شفتاه عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فتجد فيه انقباضا وغما وتشاؤما عجيبا. فإن فطن للفضل والرحمة، هانت الدنيا وما فيها في عينيه، وعرف كيف يفرح فيها بأجمل ما فيها: ذكر الله وذكر رسوله عليه الصلاة والسلام.

وهذا هو الخير الذي أكدته الآية الكريمة؛ لتعطي للقارئ نوعا خاصا من الفرح، النوع الباقي المتصل بالروح، القائد إلى تحقق توازن لذات الجسد المطلوبة. فبغيابه يصير المرء لاهثا وراء حاجاته الحياتية الجسمانية، غافلا عن جوع الروح للفضل والرحمة ليتحقق لها سَمْتُ الإنسانية وتنجو من وسم البهيمية. فإن غلب فرح الروح انشرحت وتسامت، وإن تجاذبتها أفراح الطين، ارتبكت وتاهت، وبين السموّ والطين حدّ التوازن والتوسّط والتحقق بمنهجية : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا) ليكون الفرح دائما في دائرة ما جاء به الفضل وأوصى به الرحمة عليه الصلاة والسلام، فبذلك فلتفرحوا.

والله أعلم

____________

* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×