[8] *قبس من سماء رمضان*

الدكتورة رانية الشريف العرضاوي*

 

{أَفَمَن أسَّسَ بُنيانهُ على تقوى مِن الله ورِضوانٍ خيرٌ أم من أسَّس بُنيانَه على شَفا جُرفٍ هارٍ فانهارَ به في نارِ جهنّمَ واللهُ لا يهدي القوم الظالمين} التوبة/109:

ارتبطت هذه الآية الكريمة بقصّة بناء مسجد الضِّرار المعلومة التي وقعت في زمن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وكان فيها ما فيها من عبرة ديمومة العمل لطاعة الله وفناء العمل لغير الطاعة. وبشيء من تأمّل، يظهر في الآية لطائف جمّة، منها: استعمال الفعل (أسّس) مع كلمة (بنيان). فالتأسيس هو إقامة القاعدة المُبتنى عليها للشيء، فلا بنيان بدون أساس، مهما كان متينا أو ضعيفا.

و ( البنيان) البناء، ومنه البَنيَّة أي: بيت الله. والبنيان واحد لا جمع له على المشهور، ومنه الابن والابنة. وسمّي الابن بذلك عند العرب لأنه بناء أبيه، فهو من يبتنيه ويوجد مظهره وبناءه. والابنة بناء أمّها، فهي من تبني ظاهرها وباطنها. وفي هذا إشارة تربوية مهمة؛ فما يكون من بناء في الأبناء لابدّ له من أساس يُجعل عليه، هذا الأساس هو الذي يَحكمُ بمتانة البنيان أو ضعفه. وهو ما سيستمرّ في التنامي حتى بعد كفّ يدي الوالدين أو أحدهما عن لبناته، فما بُني على حق يكتمل عليه، والعكس قائم.

ولمّا ذكر تأسيس البناء، كان حقا تحديد ماهية القاعدة التي تثبت هذا البنيان:(تقوى من الله ورضوان). وهنا يظهر طرفان: التقوى -مخافة عذاب الله والرغبة في طاعته- والرضوان. ويظهر ذلك فائدة؛ وهي أنّ التقوى على قوّتها تكون أثبت في النفس عندما تقترن بالرضوان. فهي سبب لحصول رضوان الله ومن ثم تثبيته للعبد عليها، وهي بوجه آخر رضا كامن في نفس التقي على كل ما قدّره الله له من طاعة أو امتحان أو رزق أو منع. فلمّا تتمكّن التقوى والرضوان من العبد، يصبح بناؤه الداخلي والخارجي متينا مكينا. لا يتزعزع، ولا يتذبذب ولا تهزّه عوارض الحياة ووساوس الجن والإنس. فالقيمة والمبدأ أوتاد تحفظ بنيانه من الانهيار أو التصدّع. والبنيان بطبيعته له هيكله الخارجي ولبّه الداخلي، ولكليهما حاجة للثبات، وإن كان اللبّ هو الكوّة التي عليها مدار بقاء وقوام البنيان. وهذا اللب يكون أكثر ارتباطا بالأساس من غيره، وأي ضعف في الأساس يضرّ اللبّ قبل كل شيء.

ومن ثمّ، الحرص على بناء الإيمان والعقيدة بناء صحيحا، وعلى المبدأ والقيمة الإنسانية العميقة هو أهم ما يحتاج إليه العبد ليكون قادرا على القيام بإعمار حياته وبلوغ غايته فيها. وكلما حسُن الباطن حسُن الظاهر، فكلّ ما سيكون ظاهرا من فعله وخلقه وقوله ومظهره هو نتاجٌ لباطن بنيانه الأصيل. وفي مقابل ذلك؛ تفصّل الآية الكريمة البنيان الآخر، وأساسه جاء مضمرا في صورة مثال. إذ تستدعي الآية أساسا عبّرت عنه ب( شفا جرف هار). والشفا: حافة وحرف كل شيء، ومنه شفا البئر، وشفاء المريض إذا وافته السلامة والبُرء، فكأنه نجا من حافة هلاك بمرض فشفي.

ولعلّ الشفا بمدينة الطائف اكتسب هذه التسمية لشدة ارتفاع حدّه وحافته. والجُرف : هو المكان الذي يكون في طريق السيل على طرف الوادي من طين ونحوه، ويكون متساقطا على فترات وحتى بعد مرور السيل وبطشه. وهار: أي الصّدع الذي يكون في البناء من خلفه رغم ثباته الظاهر، وبه يكون السقوط المفاجئ من عُلو إلى عمق. فانظر معي إلى هذا التركيب البديع :(شفا جرف هار). بناء على حافة وحرف منحدر، من أرض طينية متساقطة بفعل سيل أو سيول عابرة، وبه صدع خلفي غير ظاهر، يفتك به دفعة واحدة بعد حين فينهار من أعلاه إلى عمق. هكذا هو العبد الذي اختار بناءه بلا قيمة ثابتة، بلا مبدأ تقوى ورضوان.

العبد الساخط على قدره، النادب حظه، المتذبذب في معتقده، الشاكّ في ثوابته. يكون لبّه خائرا، وكُوّته مظلمة غارقة في طين متحرك، يسقط في كل مرة منه قيمة أو لبنة، مع كل صيحة أو موجة. حتى إذا ما فرغ باطنه وتجوّف، صار الصّدع شقا ينهار معه بناؤه الظاهري على حين غرّة؛ فيهوي. وعند السقوط سيكون الوقوع في نهاية محققة له، تذكّر بها الآية: (نار جهنّم). وذكر اسم (جهنم) لعلة، فالسقوط حتم واقع للبنيان، ومن ثم، تكون الحفرة هي المكان الذي يناسب فعل الانهيار والسقوط ليحتويه، وجهنم في أقوى معانيها الحفرة الكبيرة العميقة الممتلئة بالنار. وجهنم في قول: هي كلمة معرّبة، وأصلها ( جي هُنُّوم) أي وادي النار، وهو مكان في زمن كنعان شرق القدس، كانت تقدم فيه قرابين للحرق، ومنه استعير الاسم، فصار كل شق أو حفرة للنار يسمى (جهنم). فناسب أن تأتي بصفتها هذه مع سياق انهيار البناء، فيكون البنيان الخرب المنهار قابلا للاستقرار في (جهنم).

وهنا، يرتفع صوت الوعيد والتحذير في التركيب الداخلي الدلالي للآية الكريمة، وتلتفت العقول المبصرة لأهمية الثبات على الحق، والتمسك بالقيم الربانية مهما عصفت سيول الفتن، وطافت زوابع التشكيك. والحصيف هو من يختار لنفسه الأساس، ويكون بناؤه حصيلة لهذا الأساس؛ فإمّا ثبات ببناء مرتفع بالرضوان ولجنة الرضوان مُطَّلع، وإمّا خواء لا قرار له في انهيار تنهيه حفرة من نار، (والله لا يهدي القوم الظالمين).

والله أعلم

____________

* أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة الملك عبدالعزيز.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×