يوسف شغري.. دمعة “اللاذقية” تترقرق في وطنه الثاني رحل عن 66 سنة ونعاه "أهله" المثقفون في السعودية

القطيف: معصومة الزاهر

ببراءة طفلة؛ رسمت فاطمة مصطفى آل يوسف ذات الأعوام السبعة؛ لوحةً طفولية للراحل. اللوحة قبل قرابة سنتين. كانت تعبيراً عن نوع من الاعتراف بفضل الأستاذية.. والطفلة هي ابنة التشكيلية آل آل هلال..

هذا هو يوسف إسماعيل شغري، الذي لم يمر خبر وفاته على المثقفين في المنطقة الشرقية ومحافظة القطيف مرور الكرام، وإنما استوقفهم الخبر كثيراً، واسترجعوا معه كيف أثرى الفقيد الساحة الشعرية والنقدية بأعماله “الاستثنائية”.

ولم يكن خبر الوفاة مؤلماً؛ فحسب؛ بقدر الألم الذي أصابهم لأن شغري أعطى السعودية سنواتٍ طويلة من شبابه المتدفق بالعطاء، حتى أصبحت بلده الثاني.

ونعت جمعية الثقافة والفنون فجر اليوم (الأحد) شغري، وهو عضو بيت السرد فيها، الذي وافاه الأجل المحتوم عن عمر ناهز 66 عامًا.

الأدب الإنجليزي

درس شغري الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق، وله مؤلفات عدة، تمت ترجمتها إلى لغات عدة، منها: المجموعة الشعرية “تميمة الرماد”، التي طبعت في المملكة عام 2012، وأخرى بعنوان “يشتعل الأفق بالفجر تحت أصابعكِ” لدار روافد بالقاهرة عام 2014. و”ياسمين الصباح” بـ 36 قصيدة، وكذلك “قلب في راحة اليد”.

وترجمت له المجموعة الشعرية “ضوء يتسلل”. و”نصف قرن من الفن” أضواء على توهج الفن التشكيلي السعودي و”ملهمون”.

وكتب شغري في الصحافة السورية والعربية باللغتين العربية والإنجليزية منذ ثمانينات القرن الماضي، وألقى العديد من المحاضرات في الأدب والفن التشكيلي، وأقام العديد من الدورات.

النقد البناء

ونعاه الشكيلي منير الحجي قائلاً “الفقيد غادرنا بجسمه، لكنه معنا وسيبقى كذلك، شاركنا طوال مشوارنا الفني بروحه المعطاءة، ولم يبخل علينا بنصيحة أو نقد بناء، وكان في غاية الاحساس عند النقد أو الكتابة، لا يجرح أحداً، وتقاسمنا معه أوقاتنا داخل أروقة المعارض وخارجها بأحاديثنا وضحكاتنا”.

 

وأضاف الحجي “بصراحة هو من أكثر الكتّاب قباً مني، تروق لي كتاباته، رقيق المشاعر، وبسيط التعامل دمث الاخلاق وكريم النفس وعزيز على قلبي”.

وقال “خبر رحيله عنا وعن الساحة الفنية مؤلم، لكنها إرادة الله وقدره، وأدعو له بالمغفرة، وأعزي أنفسنا  والوسط الفني والثقافي”.

لم أصدق الخبر

وبكلمات غارقة في الحزن، تقول التشكيلية آيات هلال “إذا أردنا استبعاد الألم، فإننا نحاول تكذيبه، هكذا يمكنني أن أصف حالي حينما قرأت خبر وفاة شغري، وكررت قراءة الاسم مرات عدة، محاولة ألا أستوعب خبر الرحيل وصحته”.

وتتابع “من المؤسف أن نفقد هامة عملاقة سجلت بصمتها بكل محفل فني، وقد اعتدنا أيضاً على لمس تلك الحياة المتألقة عبر مواقع التواصل بشكل يومي، فإثرائه زاخر، سواء من الناحية التشكيلية أو الأدبية”.

وتضيف “عرفته منذ عام ٢٠٠٦ حينما زار معرضنا الثنائي أنا وأختي التوأم ريم، ومع تقدم السنوات أصبح شغري الأب الروحي في المجال الفني، وقد ارتبطنا أيضاً بعائلته الصغيرة المكونة من زوجة وابنه باسل وأحفاده الأربعة، وأستطيع أن أقول نحن عائلته الأخرى، رغم أننا لم نلتق به كثيراً ورابطة تلك العاطفة هي ابنتي الصغيرة فاطمة ذات الأعوام السبعة، فهو يحبها كثيراً كما حبّب أحفاده إليها، فأصبحت صديقتهم”.

وتتذكر آيات آخر لقاء جمع فاطمة بأحفاد شغري “كان العام الماضي، حينما أصطحبها مع عائلته لجمعية الثقافة والفنون لحضور مسرحية..، وأتذكر أنه كان الداعم الأول لمعرضها الشخصي في الجمعية، وأراد أن يحقق لها لقباً فنياً بسن مبكرة جداً، رحم الله يوسف شغري، وسيبقى جماله حيّا بيننا”.

عالم الفن

أما التشكلية إيمان الجشي فتقول “يوسف شغري أسم طالما ارتبط بالمعارض والفعاليات الثقافية، هذا الانسان المعطاء ذو الخلق الرفيع،  كان حاضراً من بداياتي في عالم الفن، وكان حريصاً على حضور المعارض والكتابة عنها، وكان خير ناقد وموجه، لم نشعر يوماً بأنه شخص غريب، كانت علاقتنا به علاقة ألفة وأخوة، كان لديه حس فني ونقدي جميل طالماً تحاورنا معه”.

وتكمل “حزنت جداً لخبر وفاته، وسنفتقد وجوده في بلده الثاني، وستظل ذكراه في قلوبنا، عزاؤنا إلى زوجته وأبنائه وأحبائه ورحمه الله برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جناته”.

التربية والتعليم

وبصوت لا يخلو من مسحة حزن عميقة، قال التشكيلي زمان جاسم “محزن حقاً خبر رحيل الصديق يوسف شغري، الذي عاش بيننا، وأصبح واحداً منا، كان الفن رفيقه وفي دمه، أينما حل الفن ارتحل اليه، وبرغم التزامه عمله في التربية والتعليم في تخصص اللغة الإنجليزية، غير أننا لم نشعر بهذا الأمر للحد الذي جعلني أعيد عليه سؤالاً عن وظيفته، ناسياً كل مرة بسبب اهتمامه بالفن بشكل عام، ومع هذا كله خلق من تخصصه أيضاً قدرات خاصة، ليكتب ويترجم مقالاته ورؤاه وأيضاً كل ما تحط عيناه عليه في مجال الأدب والفن أصبح محط اهتمامه سواء العربية أو الانجليزية”.

ويرجع جاسم بذاكرته إلى الوراء قليلاً “عرفناه من أول قدومه منتصف التسعينيات، فأصبح ابن البلد ملازماً كل معارض المنطقة الشرقية، خاصة القطيف مع جماعة الفن التشكيلي، حيث كان له العديد من المساهمات والفعاليات والأنشطة المحلية، وأيضاً الخارجية، حتى قبل سنوات قليلة، ورغم صعوبة القيادة حسب ما ذكر لنا، إلا أنه حريص جداً على المشاركة والحضور، تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته”.

الفن التشكيلي

ويكشف سعيد الجيراني عن بداية معرفته بيوسف شغري “عرفته من خلال وجوده الدائم في أغلب المحافل الثقافية في المنطقة، لاسيما معارض جماعة الفن التشكيلي في القطيف، ومعارض تراث الصحراء في الخبر وفعاليات إثراء وجمعية الثقافة والفنون في الدمام بندواتها وأمسياتها الشعرية والمسرحية والموسيقية، ومن النادر ألا أراه موجوداً ضمن كل ذلك”.

وأكمل “كان يجد في حضوره سعادة وسلوى لنفسه بين الأحبة والأصدقاء، علها تنسيه شيئاً من غربته عن موطنه الأصلي سوريا، الذي يحن دائماً اليه وإلى العودة لترابه وهوائه، وبحره في اللاذقية المرتبطة بذاكرته وطفولته، سكن شغري في رأس تنورة، إلا أن المسافة تلك لم تمنعه من التواجد والمشاركة دون أن يتملل أو يتعذر بطول الطريق، كان حريصاً كل الحرص على المتابعة والحضور للكتابة والتدوين والرصد، استمر على عطائه رغم اصطدامه مع العديد من الفنانين والفنانات حول تجاربهم الفنية في النقد والكتابة الصريحة، وهذا يعود لمكتسباته ومطالعاته وتأثره وتعلقه بالمدارس الفنية الكلاسيكية والواقعية التي تجبره على أن يشاهد أعمالاً فنية تتسم بالجدية والوضوح، لا النقل والتقليد والتجريد، إلا أنه في الوقت نفسه إنسان حساس مرهف متذوق لكل مستويات الجمال ومواطنه سواء على مستوى المشهد والصورة أو الكلمة، ويمكنك أن تستمع منه لتفاصيل أي عمل يشاهده بكل تجرد وصراحة ووضوح، بعيد عن المجاملات والمحاباة والتزييف”.

وتابع “رحل شغري وفي رحيله فقدنا إنساناً وفناناً وشاعراً ومترجماً وصديقاً صدوقاً يتحدث مع الجميع من القلب للقلب، نسأل الله أن يرحمه برحمته ويغفر له وأن يلهم أهله ومحبيه وكل أصدقائه الصبر والسلوان”.

الرثاء شعراً

وفضل الشاعر إبراهيم الشمر، أن يرثي شغري شعراً، فكتب قصيدة، وصفها بأنها  شهادة في سيرة الصديق والشاعر والناقد والمترجم يوسف شغري، وجاءت القصيدة بعنوان “يبللُ كفيهِ بالندى ويخدشُ  الوقار”، وجاء فيها:

لا وزنَ ولا قافيةً لديَّ لأسفحَ حبرُ ذاكرتي.

ربما ما كنتُ أستأنسُ بالرحيلِ لأُغني المراثي وأعيدُ الترجيع، وما كنتُ لولا…

كنتُ على موعدٍ مؤجلٍ من ارتطام ذاتي بعصفِ “يوسف”

المسكون بالريح والمتسربل باللونِ والحرفِ واللغةِ، منذ أول حرب بيننا.

كان ضَجِراً وكنتُ أجوس الجلجلة، عليّ أعثر على سر الصباح المفقود.

ترجلنا عن مصاطبنا ولم نحص الخسارات.

تلاقت أرواحنا في منتصف المسافة فأشرعنا للنهاراتِ أضلاعاً من البياضِ،

واحتسينا البلاد قهوةً نرسمها نافذةً للمخيلةِ ولوحةً نخيط بها آجالنا.

اصطفيته قريناً واختارني رفيقاً

نجوب الأماسي ونتقاسم الجنون.

كم كان عليه أن يُطرز “المعارض” بنعوتهِ المتربصة بالقبح،

وينفض عن الأبجديةِ عجمتها ولحنها خلف “ميكرفونات” الأشباح

وحدقات “النيون” وفلاشاتها الخادعة.

تحت أقدام الحماقات كان يبللُ كفيهِ بالندى

ويخدشُ وقار اليقينيات الباهتة،

وكنت أعبرُ معه كصنوٍ كرارايس الإنشائيات النزقة؛ نُغربل طيشها

ونُرحل رخصها، أو نشد هزالها ونمنحها خياراتُ المجازِ واحتمالات التأويل،

بسبك بنيانها ومنحها أكسير الحياة وإمكانات الحضور والبقاء.

في “الركن الغربي” و”بردايس” و”عرش بلقيس”

كنا نقيم للأصدقاء أوطاناً من لغة وشعر وسرد وحكايا،

وفي “ثقافات” و”جافا سويت”

كنا نحرض الأقران لمقارعة الظلام وحراس “الفضيلة الداعرة”،

نرتشف فناجين الهال ونزدرد كؤوس الشاي برائحة النعنع وعبق الحبق.

كان عليهِ أن يذرع المسافة

ما بين دروسه في تعليم”رأس تنورة” وبرج “اليوم”

في “شارع الكباري” ربما لينزع رداء المعلم هناك،

ليرتدي قبعة الصحفي الذي يسكنه.

في “الجمعيةِ” أسندَ قامتهُ عكازاً يعاند أوراقه التي لا يكف عن تلوينها بزيتِ وعيهِ،

ولا يتوانى عن شهوة الكلام “التي تقدح مكانته” دون أن يزهد في التفاصيل.

سنوات وسنوات من الركضِ خلف سراب من الوهمِ

الذي ظنهُ بطاقةَ عبورٍ تعصمهُ من الوحدةِ والقلقِ والعزلة،

غير أن قطار العمر دهسَ أحلامه وأمانيه حين خسر وظيفته،

ثم أضحى نهباً لمنصبٍ لم يجن منهُ سوى التعب،

يتوكأ كتفَ أحبابه الذين ما خذلوه

وما تخلوا عنه مقدار بياض، حتى فاجأهُ المرض وأقعدهُ الألم.

“يوسفُ” أيها الرجلُ المغدور

وأنت تسمو هنالك في البرزخ

ترفق بنا؛

لم نكن سوى أصدقاءٍ مهزومين

عبرت معنا كل هذه الأخطاء

وأنت محض مسافرٍ عنيد!

إبراهيم الشمر

طفلة رسمت الراحل إلى جانبها بعفوية

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×