“بيجوفش” الخارج عن السائد

أثير السادة

شهيتي للقراءة لا تذهب غالبا للوجوه الرسمية، أي تلك التي تحمل صفة رسمية تتصل بسلك دولة ما، ومرد ذلك تلك الصورة التشكيكية التي لا تغيب للأرواح التي تسكن في فناء السلطة وماحولها، وهي ثمرة العلاقة المرتبكة التي تربط الكائن العربي بالأجهزة الرسمية، فهنالك شعور بسطوة الفساد والمحسوبية، لم يعدم معه وجود كائنات خفيفة الوزن في مواقع متقدمة.

لم يكن من المغري حتما أن أقتني كتابا لوزير أو رئيس دولة، أو طباخ من داخل أفران السلطة، أي سلطة كانت، لكل الأسباب المذكورة أعلاه، وكان علي عزت بيجوفش، الرئيس البوسني الذي ذاع صيته بعد انتهاء الصراع العراقي في البلقان، واحدا من أولئك الذين تركوا وراءهم نتاجا فكريا، تزامن مع تأسيس ذائقة القراءة لجيلنا آنذاك، أي فترة التسعينيات التي فتحت باب الكثير من الأسئلة حول معنى القومية والصراعات الإقليمية والنزاعات العرقية، وسواها من عناوين كثيرة الإحالة على سؤال الهوية.

أتذكر وجهه تماما في ذروة الحدث السياسي، وأتذكر صورة الكتاب جيدا في أرفف المكتبات، لكني لا أذكر أي محاولة للاقتراب منه، غير أن دورة الأيام قد أيقظت مجددا صورة هذا الرجل في الذاكرة وحملتني لاقتناء كتابه الإسلام بين الشرق والغرب.

وجدته كتابا فاتنا في لغته، واسعا في مطالعاته، يتنقل بكثير من الخفة والرشاقة بين حقول العلم والفلسفة، والأدب والفن، والإجتماع والسياسة، بدا واضحا بأن صاحبه هو خليط من ثقافة معاصرة وروح مشرقية مشغولة بالجوانب الروحية للكائن الحي، يتحدث عن الحضارة باعتبارها “تعلم” والثقافة باعتبارها “ تنوير” وهذه الأخيرة بالنسبة له هي فعل تأمل يستوجب “جهدا جوانيا” لاكتشاف الذات، أي أنها حالة تقدم روحية، فيما الحضارة هي لحظة تقدم تقني، والثقافة هي جواب عن لماذا نحيا والحضارة جواب عن “كيف نحيا”.. منحازا يبدو للإنسان الحي والأصيل، إنسان لم تروضه الآلة ومادية الحضارة، إنسان القرية، لأن هذا الإنسان “يعيش متصلا بالطبيعة وعناصرها المتنوعة” فتهبه خبرة جمالية وروحية على حد رأيه.

من هنا يمضي للانحياز للمعطيات الثقافية، فيجعل من الشعراء “جهاز الحس في الجنس البشري”، والشعر هو “معرفة الإنسان”، ويجعل من الفن لونا من الكثافة الوجودية، والديمومة في الخلق، ويقدم لنا جملة من المواجهات بين الفن والعلم، فالعلم عنده “يكتشف” فيما الفن “يبدع” ، والعلم “دقيق” بينما الفن “صادق”، ويعتقد بعلو لغة الفن على لغة التحليل العقلي والمنطقي ، وكل ذلك يشي بطبيع الموقف من أزمة المادية الغربية في تلك الحقبة وما انتهت إليه حضارة الآلة في ذروة صعودها، لذلك سيتكرر الكلام حين الحديث عن التحليل العقلي للأخلاق وعجز العقل عن إصدار “حكم قيمي” في القضايا الأخلاقية.

هذا الكاتب ليس من نمط ساكني البلاط، هذه هي الخلاصة التي ستهزم كل الصور المسبقة عن كتابات المسئولين وذوي القرار، فهو كاتب موسوعي خارج عن السائد، ومحام شرس عن أفكاره التي نثرها فوق حقول شتى ، فكانت صورة عنه، وعن أسئلته، وعن زمنه.

_____________

* من صفحته على الفيسبوك.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×