[3] قبس من سماء رمضان عن الزيغ والهداية

رانية الشريف العرضاوي*

{ربّنا لا تزغْ قلوبَنا بعد إذ هَديتنا وهَب لنا مِن لدنك رحمةً إنّك أنتَ الوهّاب} آل عمران/٧.

ورد في معاجم العربية في (زاغ) سياقات دلالية متنوعة، كلها تصبّ في دلالة الحجب والميل عن الاستقامة؛ فقالوا: زاغ البصر: إذا ضعف وغبشت الرؤية، وزاغت الشمس: إذا مالت إلى الغروب،

وزاغ البعير: جذبه بالزمام، والزّاغ: نوع من الغربان ويسمّى بغراب الزيتون لأنه يأكله. واللطيف في الطلب الذي يرفعه السائل لربه: (لا تزغ قلوبنا)، فكأنّ القلوب قابلة للميلان عن الاستقامة يما يعترضها من عوارض الهوى والنفس والفكر، وهي مهيأة بحضور هذه العوارض لأن تقع في دائرة الحَجْب التي تتحمّلها دلائل الكلمة؛ بل وما بعد الحَجْب من ميلان في المشي على الصراط المستقيم.

وتكون الكلمة (زاغ) بذلك طوّافة حول معنى وجوب جذب زمام النفس إذا انفلتت ومال القلب بها، ومعنى الغشاوة التي قد تحيط بالقلب لكثرة الزّلل، فيضعف التمييز بين الأشياء، وتطيش البصيرة، وتجور الأحكام وتزوغ المعتقدات عن استقامتها، ويجد الشك والجدل في وسط ذلك لنفسه منبتا خبيثا. وكذلك، معنى اقتراب الخروج من النور إلى الظلمة المقيّدة بغياب الشمس، فيكون الطالب خائفا من هاجس التيه بعد معرفة الطريق والنور، والتمييز الثابت بين الحق والباطل.

بل إنّ تسمية غراب الزيتون ب (الزاغ) فيه لفتة عجيبة؛ فكما هو معلوم بأنّ الغراب في مدوّنة العرب قبل الإسلام، هو رديف شؤم وسوء لسواده وتاريخية ذكره في التعالق مع الموت والدفن في الموروث الإنساني الأول، فلمّا يكون مرتبطا بثمرة الزيتون ذات الحظوة النورانية في المثال القرآني والوعي الإسلامي، يغدو هذا الربط بين نقيضين؛ فآكل الزيتون – رمز النور- يبقى مائلا زائغا عن الاستقامة، رغم ارتباطه بسببها؛ وهذا حال من عرف الحقّ ثم مال عنه،

وهو حال يتناقض كليّا مع المَثني عليهم في الآية السابقة: (والرّاسخون في العلم)؛ فهم الثابتون البعيدون عن الميل والزيغ والظلمة، وذلك بثبوت علمهم وتمكّنهم من فهم آي الله، محكمه ومتشابهه، على الإجمال والتفصيل.

ورغم ذلك هم من يطلبون من المُنعم عليهم بالثبات مزيدا من الثبات، فالراسخ هو من لا يبتغي في فهم الكتاب الحكيم فتنة ولا تحريفا، وهو الذي ما يكون أكثر الناس بعدا عن حال (غراب الزيتون) الذي عرف فما اغترف، بل اقترف.

ومن ثمّ؛ يكون الدعاء في هذا المقام هو دعاء مستزيد من نور، موقن بأنّ فهم الكتاب وتفسيره، والسير على طريقه المستقيم هو في كل الأحوال هبة لا تتأتّى إلا من الله وحده، وهو من يهبها من لدنه لمن رسخ في طريق الحق، وتحصّل أسباب الفهم بلا قصد مشبوه، وهذه الهبة عُبّر عنها باسم نكرة (رحمة) تعظيما للمطلوب، وتبيانا لفقر الطالب، وعظيم قدرة الواهب، فيكون تخليص القلب من الزيغ ابتداء، وتمسكّه بالعلم الراسخ توسطّا، فتتحقق العطية انتهاء، عطية الرحمة الشاملة لما يعتمله القلب من إيمان، والعقل من معرفة، والجوارح من زينة الطاعة. وكل هذا لا يعطيه إلا (الوهّاب) جلّ في علاه. والله أعلم

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×