العُلا.. المدرسة كبيرة.. والوجهة عالمية.. والصانعون أبناء الوادي وبناته
العلا: حبيب محمود
في ورشة تدريب على تشكيل المعادن النفيسة؛ رفعت رغد هزّازي قطعة معدنية مشكّلة ومنقوشة على تكوين مستلهم من هوية محافظة العُلا. قطعة من حديد، قد لا تشكّل أهميةً في ذاتها الآن. إلا أنها خطوة مهمة لمن أمضت وقتاً ليس قصيراً في إنتاجها.
هزّازي هي مسؤولة “مدرسة الديرة” العاملة تحت مظلة الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، وهي دارسة فنون في لبنان وبريطانيا. والقطعة التي رفعتها لزوار “مدرسة الديرة”؛ أنتجتها شابة من بنات العُلا، ومتدربة في المدرسة. وهي واحدة من مجموعة يتدربن على تشكيل الذهب، والمجموعة واحدة من 4 مجموعات، يتدربن على حرف يدوية من تراث المحافظة: التطريز، الخوصيات، الفخّار.
بالمعنى الحرفي؛ إنهنّ في مدرسة مهارات، لا مدرسة شهادات، على حدّ تعبير هزازي التي شرحت الأهداف “تمكين الحرفيين من لعب دور فعال في الحفاظ على تراث العلا العريق، والاحتفاظ به، ومساعدتهم على تشكيل مستقبلهم الواعد”.
وما بعد المهارات؛ هو وصول إنتاجهنّ إلى السوق، وهو في حالة عالية من الجودة.
التشكيلية حنان سامي تتدرب على إعداد “اللبادة”
أميرة العنزي في مهمة تحويل الصوف إلى “جوخ”
مدرسة العُلا
باختصار؛ محافظة العُلا، الآن، مدرسة كبيرة، على مساحة 29261 كيلو متر مربع. ورؤية الهيئة الملكية للمحافظة لها هدف صريح، هو دمج 38 ألفاً من سكان المحافظة في مشروع تشغيلها، وهو ما يُعادل ثلثي المشاركين في بناء مستقبلها، بوصفها وجهة عالمية.
الخطوات بدأت قبل عامين، على يد وليّ العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، الذي أطلق، في فبراير 2019، “رؤية العلا”، فاتحاً بوابةً جديدة لتاريخٍ جديد، تتحوّل فيه المحافظة، برمتها، إلى وجهة عالمية للتراث، وتلتقي عندها الخبرات العالمية والمجتمع المحلي، للحفاظ على التراث الثقافي والطبيعي، ويُصنع ما يُعرف اليوم بـ “التنمية المستدامة”.
“مدرسة الديرة” وحدة صغيرة، ضمن المشروع الكبير، الأفكار تحوّلت إلى خطط، والخطط تحوّلت إلى أنشطة، والأنشطة استوعبت أبناء العلا وبناتها، ليتوزعوا على منظومة ما يجري في قطاع الآثار والتراث، وقطاع البيئة، وقطاع السياحة، ويتحوّلوا ـ خلال مدة وجيزة ـ إلى قاعدة التشغيل الأساسية، في كلّ حركة تقف الهيئة الملكية وراءها.
يزيد العيسى، ابن الـ 21 عاماً، طالب الكلية التقنية، لديه ما يكفي من الوقت ليعمل ضمن طاقم العمل في رعاية ضيوف العُلا. الفكرة لديه أن يجني بعض المال من جهده. والفكرة لدى الهيئة الملكية لمحافظة العُلا أن يكون الشابُّ المتحمّس واحداً من آلاف “العَلاوْنة” في تشغيل الميكنة الكُبرى في مشاريع مستقبل المحافظة.
الوظيفة البسيطة التي يؤدّيها الشاب “سائقاً”؛ منحته القدرة على استيعاب ما يجري في هذا الجزء الصميم من بلادنا.. يتحدث “يزيد” عن معالم المحافظة بلسان يكاد يكون لسان “دليل سياحي”. في الـ “لانكروزر” الحديث يصحب الضيوف إلى مدائن صالح، طنطورة، العلا القديمة، العلا الجديدة، مسار البرتقال، مزرعة الأميرة نورة، مدرسة الديرة، المنتجعات المتناثرة، الفنادق.. والقائمة أطول..!
وفي كلّ جولة يتحدث بحب عن أرض الوادي بما فيه وما عليه، وما هو محفور في صخور أقدم مكتبة مفتوحة في الجزيرة العربية..!
شاب يافع يعمل سائقاً، حسناً؛ ليست القصة في نوع المهنة، بل في المشهد الأكبر الذي تعمل فيه الهيئة الملكية، ويشارك فيه أبناء العلا وبناتها، في الميدان..!
طبقات التاريخ
7 بعثات آثار نقّبت في المحافظة خلال العامين الماضيين، آخرها 85 عالماً وباحثاً ومنقبّاً وطالب آثار، نشطوا في تفكيك شفرات أرض الأساطير، ليس في 111 مدفناً مسكوناً بالأسرار والتعاويذ فحسب، بل وفي المكتوب في جدران الجبال الصخرية بأزاميل لغاتٍ لم تعد البشرية تتحدث بها، وعبر أحقابٍ تشابكت مكوّناتها بحضارات ما بين النهرين وبلاد الشام، قبل الإسلام وبعده، فضلاً عن الجزيرة العربية.
7 بعثات لم تتمكن ـ حتى الآن ـ إلا من اكتشاف 4% من بعض طبقات التاريخ المدفون في الوادي. إنها 200 ألف سنة ماضية، لوجود الإنسان في العُلا، إنها آثار المملكتين الدادانية واللحيانية، وكنوز غامضة في المدافن. ناهيك عن موقع “الحِجر”، العالمي، ثاني أقدم موقع للأنباط، بعد البتراء.
القصة في المستقبل
هذا هو التاريخ الماضي في بضع جمل مفيدة ومُختزلة اختزالاً شديد جداً. لكنّ قصة العُلا أكثر اتساعاً. إنها قصة مستقبل بدأ يتسارع منذ عامين.
إذا كان يزيد العيسى سائقاً يستمتع بما يعمل؛ فإن الشابة رزان البوشي، لديها ما يشغلها في مكان آخر. إنها تستقبل السياح في موقع “الحِجر”، وتحديداً، عند محطة قطار الحجاز، والمعرض التاريخي الذي تُقدَّم فيه الشروحات قبل الجولة في المدافن. خرّيجة جامعة الملك عبدالعزيز؛ تعرف ما عليها أن تؤدّيه، وما تقوله، وما تشرحه، وتتحدث ابنة العُلا عن العُلا بلغة عارف الماضي، ومُدرك تحديات المستقبل.
يتوافد السياح على موقع “الحجر”، المعروف، أيضاً، بـ “مدائن صالح”. المواقع التي بقيت ردحاً من الزمن مكاناً للرياح والأشباح. إنها اليوم واحدٌ من أهم مفاتيح التعريف بالثروة الأثرية التي تمتلكها المملكة العربية السعودية. ورزان البوشي، من موقعها، تعملُ بجدّ من أجل أن تكون جزءاً من نجاح الرؤية التي أطلقها وليّ العهد.
في الجادة الرئيسة من العُلا القديمة، تصطفُّ المحلات.. في أحدها تجلس حنان وغدير البلوي معاً، تتبادلان الحديث، وتتعاملان مع الزبائن. حسب كلامهما؛ فإن أكثر من يشتري منهما هم سياح أجانب، أوروبيون وأمريكان، ثم خليجيون. يفضلون شراء المصنوعات الحرفية القديمة.
في الوقت الحالي للجائحة أثرها في زيارة المنطقة التاريخية من العُلا، لكنّهما تُدركان أن هذا المكان إرثٌ مهمٌّ يأخذ مكانته من وطننا.
ربما انخفضت المبيعات في الوقت الراهن، إلا أن الرهان آتٍ، ومن المهمّ التحلّي بالصبر، والتمسك ليس بالوظيفة فقط، بل بالدور. إنهما من بنات العُلا..!
زراعة
في أرض تمتلك أكثر من مليوني و300 ألف نخلة، وتُنتج 29 صفناً من الحمضيات، لا بدّ أن توظّف هذه الثروة ضمن مشروع المستقبل. وإنسان العُلا جزءٌ من الفكرة والنشاط. وقد عملت الهيئة على تأهيل أكثر من 100 مزارع لتطوير إنتاجهم من التمور والحمضيات، ووضعه على منصة المنافسة. الـ 100 مزارع هم نواة يتّسع قطرها عاماً بعد آخر، لتكون البيئة والزراعة أساساً في المستقبل.
الحمّاية
ومن أجل تطوير الحسّ البيئي والأثري؛ ظهرت فرق “الحَمّاية” الشبابية.. تبدو الفكرة بسيطة، إلا أن مفعولها التثقيفي مبشّراً وبقوة. تقوم الفكرة على تولّي مجموعات من شبّان المحافظة حماية الآثار والبيئة، بمقابل مكافآت. قد يكون الدافع المالي هو ما حرّك الشباب في البداية، لكن الحصيلة تحققت ببناء وعي بيئي وأثري في أوساط الشاب.
وادي العلا، وجباله، سجّلٌّ تاريخي لأحقاب زمنية دوّنت نفسها عبر المجموعات البشرية التي استوطنت المكان. وكثيرٌ منها يقع في مواقع مفتوحة، وحمايتها من العبث والتخريب بالغة الأهمية.. وشباب “الحمّاية” أدوا دورهم في حماية آثار محافظتهم وبيئتها الطبيعية.