مع الشيخ علي الفرج في “كائن اللغة”
اللغة قد تهرم، وقد تُقتل، وقد تتسمّم. وقد تموت ميتةً تاريخيةً قبل ذلك.
لم يقدّم الشيخ علي الفرج فتحاً معرفيّاً في تناوله اللغة بوصفها كائناً حياً، لكنه نجح في تنضيدِ مصنَّفٍ يقوم مقام مقدّمةٍ موجزة وأصيلة في بابها. وفي رأيي؛ يجوز لهذا التوصيف المقتضب؛ أن يكون منصفاً لجهد الشيخ الفرج في كتابه “كائن اللغة”، من الزاوية التي بنى عليها فرضيته.. فرضية كون اللغة كائناً حياً، يولد، ويعيش طفولة، ويشبّ، وينضج.. ويموت..!
عرف قرّاء العربية وصف اللغة بـ “الكائن الحي” على يد جورجي زيدان الذي صنّف كتاباً يحمل اسم “اللغة العربية كائن حي”، مستنداً إلى فرضية “الحياة” التي تتسم بها اللغة العربية تحديداً. وضع زيدان مصنَّفه في مرحلة شهدت جدليات واسعة بين الفصحى والعامية، في أوساط المثقفين العرب. وخلص فيه إلى أن اللغة العربية كائنٌ حي وبخير، ولا خوف عليه “ليعلم حملة الأقلام أن اللغة كائن حي نام خاضع لناموس الإرتقاء، وتتجدّد ألفاظها، وتراكيبها على الدوام.. فلا يتهيّبون من استخدام لفظ جديد لم يستخدمه العرب له”*.
لكنّ مفهوم اللغة “الحية”، بإزاء اللغة “الميتة”؛ مُتداول على نطاق عالميّ قبل جورجي زيدان، ومستمرٌّ حتى عصرنا الراهن. وفي ثمانينيات القرن الماضي؛ أطلقت اليونسكو مشروعاً دولياً، بقيادة ستيفن روم، تحت مسمى “الكتاب الأحمر للغات المهددة بالاندثار”، ضمن مشاريعها المعنية بالتنوع اللغوي والتراث العالمي الثقافي غير المادي.
وهذا يفسّر أن فرضية “كائن اللغة” مُتساوقة مع مفهومٍ آخذٍ في التكرُّس على صعيد عالمي.
ومن الواضح أن فرضية حياة اللغة، أية لغة، تستند إلى نوع من المقاربة يأخذ بحسبانه الظاهرة اللغوية بوصفها نشاطاً ملازماً للإنسان. الإنسان يفعل ويقول. وحتى يفعل؛ لا بدّ له من إعمال حواسه وأطرافه. وحتى يقول؛ لا بدّ له من إعمال لسانه وصوته. وعليه أن يربط ما يقوله بما فعله، أو يفعله، أو يريد أن يُفعل. وهذه هي اللغة التي يجدها الشيخ الفرج في ركام مفاهيم وركام مصاديق، من ابن جنّي إلى بيرس. وعبر ستة فصول يرصد ويبوّب خلاصة جهود اللغويين والباحثين اللسانيين، وطروحاتهم الرئيسة، والنقود التي تناولتها.
وبعد استعراضٍ تاريخيّ للّغات، حيّها وميّتها، يضع الشيخ الفرج على خلاصة الخلاصات في ظاهرة حياة اللغة. في الفصل الخامس تركيزٌ على “تطور اللغة”. رأي يقول إن هذا الفصل هو زبدة الكتاب كله، باعتباره ضوءاً للمنطقة المعتمة في فهمنا للظواهر اللغوية. اللغة تتغير وتتطور، تتجدد وتتقادم. وغاية ما وصلت إليه العلوم اللسانية، اليوم، هي وضعها أربعة أشكال في تغير/ تطور اللغة. هذه الأشكال بوّبها الشيخ الفرج فيما وصفه “طبقات” تتطور: الطبقة النحوية، الطبقة الصرفية، الطبقة الصوتية، الطبقة المعجمية.
الكتاب، في مجمله، مقدّمة نابضة بالمعرفة والفهم المنهجيّ لطبيعة الموضوع المتشعّب. ذهنية الشيخ الآتي من دروس الحوزة منفتحة على الثقافات، غير مداهنة حتى لما يمكن وضعه ضمن المسلّمات.
——————————-
* اللغة العربية كائن حي: المقدمة.
حبيب محمود