“فاء” القطيف تسألكم براءة الذمة
زكي علي الصالح
الثاء من أكثر الحروف قلباً وإبدالاً في اللهجات العربية، فهو يقلب “تاءً” في لهجات أهل المغرب والجزائر وليبيا و”تاءً و”سيناً” في لهجات أهل مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن والسودان والمنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية، و”فاءً” في لهجة أهل القطيف والبحارنة في مملكة البحرين وأبوظبي، ولا عجب في ذلك إذ إن التخلص من حرف الثاء طلباً لليسر والسهولة هو منحى طبيعي سلكته اللهجات العربية ومن قبلها اللغات السامية.
إلا أنه – وخلافاً لقانون اليسر والسهولة هذا- نلاحظ تراجع استعمال “الفاء” القطيفية لصالح حرف الثاء، على الرغم من أن “الفاء” في النطق أخف في اللسان من نطق الثاء، فيجري الآن على ألسنة أغلب الناس قولهم: (ثوب، ثلج، ثلاجة، ثقيل، يبحث، ثلث، خباثة، ثمن) ، بينما صورتها في اللهجة قديماً: (فوب، فلج، فلّاجة، فقيل، يبحف، فِلف، خبافة، فمن) .
وإلى جانب “الثاء” شاع في اللهجة القطيفية استعمال حرف التاء التي حلت محل الفاء وخاصة في نطق الأرقام، فمثلاً: (افنين، فلافة، فمانية، فلافين، فلافة وفلافين، فمانين، فلاف امية) صارت تلفظ على ألسنة كثير من الشباب وما دونهم: اتنين، تلاتة، تمانية، تلاتين، تلاتة وتلاتين، تمانين، تلات امية.
ونطق “الفاء” أو “الثاء” تاءً ظاهرة دخيلة على لسان أهل الساحل في الخليج، وبها يكون القطيفي هو الخليجي الوحيد الذي يقول اتنين وتلاته وتمانية…إلخ، وكنت أظن نظراً للتشابه الكبير بين لهجات أهل القطيف وأبناء عمومتهم البحارنة في مملكة البحرين أن ظاهرة نطق الثاء تاءً هي العلامة الفارقة التي من خلالها يمكن التمييز بين لهجة القطافة وبحارنة البحرين، وأن الفاء البحرانية هي أفضل حالاً من شقيقتها القطيفية إلا أن الواقع يشي بخلاف ذلك فهي في انحسار وحلول الثاء مكانها.
كما تم استبدال “الفاء” القطيفية بالطاء في نطق بعض الأرقام في لسان غالبية القطيفيين وذلك كقولهم: إطنعش، وطلطعش، وطمنطعش، أي اثني عشر، وثلاثة عشر، وثمانية عشر. بينما ما زالت تنطق على لسان كبار السن: إفنعشر/ إفنعش، فلتعشر/فلتعش، فمنتعشر /فمنتعش.
وفي تقديري إن تاريخ بداية تلاشي استعمال “الفاء” القطيفية وإبدالها بالتاء والثاء والطاء يعود إلى مطلع الخمسينات الميلادية؛ وذلك مع افتتاح المدارس وانتشار التعليم الحديث والاختلاط بالمدرسين الشوام (فلسطينيين وأردنيين، وسوريين) والمصريين.
وحدث في تلك الفترة أن أصاب البعض هوس الحداثة والتأنق في الكلام للظهور بمظهر الإنسان المتعلم والمثقف؛ حيث عمدوا إلى إبدال “الفاء” ثاءً حتى في الألفاظ التي الفاء فيها أصلية (سمعت عنهم أولاً من الأخ الأستاذ علي بن عبدالله الشيخ “أبو رشيد”، ثم من خلال بحث الأستاذ السيد شبر علوي القصاب عن اللهجة القطيفية المنشور في مجلة الواحة عدد22 لعام 2011) وذلك مثل قولهم: (ثوق، ثانيلة، حثرة، ثَرم، ثرن، حِثّة، نثنوث، صثريّة، ثمان الله) . في: (فوق، فانيلة، حفرة، فَرم، فرن، حفّة، نفنوف، صفريّة، فمان الله)!!
وبات شائعاً في اللهجة المحكية المعاصرة نطق الثاء ثاءً كما هي في كثير من الألفاظ، ونادراً ما يتم سماعها بصيغتها القطيفية القديمة، فيما بقت “الفاء” في بعض المفردات على حالتها الأولى تصارع من أجل البقاء، مثل: عفر، غفيف، طرفوف، يتعيلف، فمر، فالول، نفّر، فقيل طينة، فلّجنا، أدّى فمنه. أي: أثر، غثيث، طرثوث، يتعيلث، ثَمر، ثألول، نثّر، ثقيل طينة، ثلّجنا، أدى ثمنه.
بما يعني أن القطيفي بات يستعمل في لهجته المعاصرة أربع صيغ للثاء؛ ثاءً، وفاءً، وتاءً، وطاءً، ولا عجب أن الصيغ الأربع هذه قد ترد جميعها مجتمعة على لسان فرد واحد وفي قول واحد ، فمثلاً لقياس مدى التغير الذي طرأ على استعمال حرف الفاء في لهجتنا المحلية، طلبت من أصدقاء من مختلف بلدات القطيف تسجيل أصوات أولادهم تلاميذ المرحلة الابتدائية وهم يعدون الأرقام من الواحد إلى العشرين؛ فوجدت غالبيتهم يستعملون الثاء والتاء والطاء ولا ذكر لحرف الفاء إلا عند طفل واحد من بلدة التوبي استعمل حرف الفاء بالإضافة إلى الحروف الثلاثة المذكورة، وكان عدّه على النسق التالي: واحد،اثنين،فلافة،أربعة،خمسة،ستة،سبعة،ثمانية،تسعة،عشرة،إحدعش،اطنعش،ثلطعش،أرباطعش،خمسطعش،سطعش،سباطعش،فمنطعش،تساطعش،عشرين.
الجدير بالإشارة هنا إلى إنه أثناء الإعداد لهذا المقال نبهني أحدهم إلى وجود ظاهرة لهجية في مدينة صفوى فريدة من نوعها في القطيف وهي أن “الصفافنة” ينطقون حرف الثاء سيناً والذال زاءً، ومن خلال البحث والتقصي وجدت أن هذه الظاهرة تجري على ألسنة النساء أكثر من الرجال، وفي شريحة محدودة، وتقتصر على بعض المفردات مثل :(حديس، المدرسة السنوية، جزبني،إزا، يزاكروا) أي (حديث، المدرسة الثانوية، جذبني، إذا، يذاكروا) ، وهي ظاهرة دخيلة وحديثة نسبياً لا يتجاوز عمرها الخمسة عقود، وعن أسباب نشوء هذه الظاهرة قيل إنها جاءت عن طريق الاحتكاك بالمعلمين المصريين وانتشار ظاهرة الزواج من جمهورية مصر، لكن الخبر اليقين لدى الباحثين الصفوانيين فهم الأقدر على التوضيح والتفسير.
إن ما جهله أولئك المتحمسون لوأد كل فاء قطيفية ترد على ألسنتهم من أن هذه الظاهرة اللهجية وهي إبدال الثاء فاءً؛ هي لغة عربية قديمة فقد قال ابن دريد كما في مختار الصحاح “والجدف القبر بإبدال الثاء فاءً”، وقد اعترف القرآن بهذه اللغة حيث ورد الثوم في القرآن بالفاء كما في قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة، آية 61:”يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادعُ لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها”.
ونقل أبوحيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط عن الكِسائِيِّ والفَرّاءِ والنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وغَْيرِهم عن الفوم في آية سورة البقرة: هو “الثُّومُ، أُبْدِلَتِ الثّاءُ فاءً، كَما قالُوا في مَغْفُورٍ: مَغْثُورٍ، وفي جَدَّثَ: جَدَّفَ، وفي عاثُورٍ: عافُورٍ”.
ونقل عن أمية بن أبي الصلت الثقفي قوله:
كانَتْ مَنازِلُهم إذْ ذاكَ ظاهِرَةً فِيها الفرادِيسُ والفُومانُ والبَصَلُ
ونقل عن حَسّانَ قوله:
وأنْتُمْ أُناسٌ لِئامُ الأُصُولِ طَعامُكُمُ الفُومُ والحَوْقَلُ
أي الفُوم والبصل
وما زالت هذه الظاهرة اللهجية موجودة في بعض المفردات المستعملة في عدد من البلدان العربية، فمثلاً: يطلق عموم الإماراتيين على طبق الخبز المفتوت مع مرقة اللحم “فريد” كما ينطقها البحارنة في الخليج عموماً، وفي العراق يقولون “فالول” أي “ثألول” وفي الناصرية ما زال كبار السن يستعملون مفردة “فلج” بدلاً من “ثلج”، أما في الكويت فقد وثق المسلسل الشهير درب الزلق استعمال مفردة “فلج” في أيام زمان؛ إذ أظهر ديكور مشاهد بائع الثلج الذي لعب شخصيته الفنان الراحل خالد النفيسي عبارة مكتوبة على الجدار “فلج بو صالح” لكن الآن اندثر استعمالها، بينما بقي قول “فالول” بدلاً عن ثألول ما زال قائماً في اللهجة الكويتية.
نخلص مما تقدم بأن أكثر الشعوب العربية لا تنطق الثاء في لهجاتها المحكية، وإن إبدال الثاء فاءً في اللهجة القطيفية / البحرانية له جذوره الضاربة في أعماق تاريخ اللغة العربية ، وإن العودة في الإبدال للنطق بالثاء بدلاً من الفاء هو خلاف لقانون السهولة واليسر اللهجي، وعليه، إننا وإن كنا لا نستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بالطلب من الناس العودة إلى استعمال الفاء القطيفية بدلاً من الثاء في أحاديثهم كما كانوا يفعلون في السابق، إلا إن في المقدور والمستطاع ـ حرصاً على الأصالة والهوية ـ التمسك بما تبقى منها من ألفاظ وإحياء استعمال ما اندثر منها من ألفاظ خفيفة النطق في اللسان والوقع على الآذان، مثل: فوب، فتّين، فلج، فالول، فمان، أخدت فاري منه، نفية، فوم، فلّاجة، فمرة، فمر، فمن، فقيل، فواب، عفر، فريد، مرة فانية، أدى فمنه، جم فمنه، فريّا.
وفي الختام خلكم قطيفيين،، ونلقاكم في مقال آخر.