سانحة ذكريات من جزيرة تاروت
عبدالجبار آل محمد حسين
وصلتني رسالة جميلة تشتمل على مقطع فيديو لامرأة ريفية، تقوم بحلب بقرة بذات الطريقة التي بها كانت أمهاتنا تحلب أبقارها ثم قامت بتحويل الحليب الطازج إلى لبن رائب، استخرجت منه زبدة طرية، أطعمت أطفالها منها؛ هذا المقطع الرائع أخذ بلباب عقلي وخيال ذاكرتي إلى الأيام الخوالي أيام كنا أطفالا وصبيانا نرتع بمنتهى البراءة والعفوية والبساطة في ربى الديرة الغالية بجزيرة تاروت العريقة.
في تلك الأيام الأثيرة، كان لدينا في وسط البيت العود بقرة حلوب، وكان لعائلة عمي بعضا من الماعز، في النهار يذهب الماعز لخارج البيت وفي الليل يتسكعون بدلال على درج البيت وكانت والدتي رحمة الله عليها هي التي تهتم بالبقرة وتحلبها، وتصنع من الحليب الزبدة، فنستهلك جزء منهما وتبيع الباقي، وكانت أخواتي عندما يذهبن لغسل الملابس في (العين العودة)، يتركن أطفالهن في البيت، وعندما يبكي طفل إحداهن، و حيث لا يوجد آنذاك حليب بودرة للأطفال، كانت أمي تُقرّب فم الصغير إلى ثدي البقرة ليشرب الحليب حتى يرتوي، فيداهمه النعاس و يركن إلى النوم، وكانت حضيرة البقرة جزء لا بدّ منه في معظم البيوت التي تحتضن في العادة أكثر من فرع من عائلة ممتدة واحدة، حيث لا بلاط و لا حتى إسمنت، بل أرضية متربة.. هكذا كان وضع بيوت ديرة تاروت وأحيائها الأخرى التي كانت في الأغلب مزارع عامرة.
في تلك الفترة، كان اعتماد الناس في معيشتهم متركزا على البحر (الغوص واستخراج اللؤلؤ وصيد الأسماك)، وعلى الزراعة (وما له علاقة بها كتربية وإنتاج البهائم)، ثم جاءت سنوات عجاف، خصوصا على من له علاقة بالغوص و استخراج و تجارة اللؤلؤ، حيث توقفت عمليات صيد اللؤلؤ بسبب الحرب العالمية الثانية، وعلينا أن نشرح هذه الحقبة لأهميتها في مسار الحياة في جزيرة تاروت، فلقد كانت الجزيرة حلقة وصل ليس في محور استخراج اللؤلؤ فحسب، وإنما أيضا في مجال “الطواشة” (أي تجارة اللؤلؤ)، فلقد جهدت عدة عوائل في الجزيرة، بكل بلداتها، في بناء ما يمكن تسميته بقوافل بحرية لإستخراج اللؤلؤ في المياه العميقة، ومنها عوائل المختار وآل الشيخ (السيف) وآل محمد حسين والسني وآل خميس والتركي وآل حبيب والطوال والمبشر والضامن والبنعلي والهارون وغيرهم، وكان لهم سوق يمتد من دارين إلى بومباي مرورا بدبي، لبيع اللؤلؤ ومن طريف ما ينقل، أنه حتى لؤلؤ تاج الملكة البريطانية كان قد جلب من سوق دارين، ومن الأحداث الغريبة التي أخبرني بها والدي الحاج علي بن أحمد آل محمد حسين، أنه رحمه الله كان في سفر لبيع اللؤلؤ، وكان هو و جماعته على سفينة (جالبوت) راسية في بومباي، وجاء تاجر لؤلؤ من السيخ ليشتري لؤلؤ، وكان لدى الوالد لؤلؤة جميلة كبيرة (دانة)، انبهر التاجر الهندي بها وهو يقلبها بين يديه، وما هي إلاّ ثوان إلاّ و قد بلعها، وأسقط في يد الوالد فلم يعرف كيف يتصرف، فقد كانت اللؤلؤة نادرة و ثمينة جدا، وخلص إلى مناداة من معه من الرجال، فحبسوا التاجر الهندي في السفينة حتى أخرجها.
الخلاصة في هذا السياق، أن تجارة اللؤلؤ بعد الحرب العالمية الثانية قد أصابها الضرر الشديد، وتضاعف هذا الضرر لاحقا بعد نجاح اليابانيين في استزراع اللؤلؤ بكميات هائلة، بيد أن الناس الصابرين المثابرين لم يعدموا وسيلة لاستمرار حياتهم اليسيرة القانعة فاستمروا في كسب معيشتهم بحرا وبرا صيدا للأسماك، وحرثا و إحياء للأرض الخصبة المباركة.
هكذا كنا حتى أذن الله لأرضنا الكريمة المعطاءة أن تتفجر نفطا وغازا وثروة، وجاءت أرامكو فالتحق الكثير من أرباب العوائل وشبابها للعمل في حفر آبار البترول في أنحاء المنطقة الشرقية، ونشأت شركة النفط واشتد عودها على الأكتاف العصامية لآبائنا وشباب المنطقة، ودبت روح الرخاء، وأنشأت أحياء سكنية جديدة في أغلب البلدات، وظهرت أساليب جديدة في البناء، ساعدت على إحيائها قروض البناء التي كانت شركة أرامكو تقدمها لموظفيها، وكان هذا الإنجاز فعلا مثارا للفخر و التميز.
وفي يوم من الأيام جاء الإعلان عن فتح مدرسة، ضمن حركة التغيير والتعليم التي عمت أنحاء البلاد، وكان التوجه أن يصبح التعليم إجباريا، فالتحق بالدراسة من رغب، ومن لم يستجب لنداء العلم من الأطفال، سحب من بيته، وكان ذلك دون شك محققا للمصلحة.
وبفضل الله وبفضل وجود حلقات تعليم القرآن الكريم (المعلم والوليدات)، كان الكثير منا من حفظة القرآن الحكيم، لذا تنوعت مستويات الصفوف، وكان من بيننا من الأذكياء المتميزين من يقفز الصفوف مثل الدكتور جميل الجشي والدكتور عبد الجليل السيف وغيرهما ومن المبهج أن الإقبال على الدراسة زاد كثيرا مما أدى لازدحام مدرستنا، فقامت “وزارة المعارف” ببناء مدرسة خارج قلعة الديرة.
وكانت الديرة في ذلك الوقت مسورة بسور له بابان ضخمان واحد في الشرق (يسمى الدروازة الشرقية)، واحد عند مدخل السوق، حيث تقع وراءه مباشرة (العين العودة)، التي يتدفق منها الماء النقي ليغذي الديرة وما حولها من نخيل و مزارع وأحياء وقبل ذلك يمرّ ماء العين المعطاءة كالنهر المتدفق “بحمام باشا” الذي كان بناء مسقوفا وخاصا بالرجال وعند المغرب تغلق أبوابه.
ويواصل سيل ماء العين طريقه إلى حمام آخر يسمى حمام السوق، وكان مكشوفا وخاصا بالشباب والصبيان، ثم ينتقل إلى جزء آخر من حمام السوق مخصص لتنظيف البهائم، قبل أن يتفرع ليسقي جميع مزارع جزيرة تاروت، حتى يصل إلى المزارع القريبة من بلدة الزور.
وإن كان إخواننا المصريون يقولون أن (مصر هبة النيل)، فإن سكان تاروت في ذلك الوقت يحق لهم الإقتباس: (تاروت هبة عين العودة)، وكان لعين العودة باب خاص تدخل منه النسوة للإستحمام، وغسل الملابس، وجلب الماء، حيث تراهن يحملون “صفاري وقدور” الماء على رؤوسهن، وقد تعلق أطفالهن بأيديهن، وفي شوارع الديرة ترى الأطفال يتراكضون من شارع لآخر ويلعبون ألعابا يدويه مثل الطنقور والتيله والدوامه وحجيرات والهولي.
صورة أخرى من الذكريات، داعبت مخيلتي في هذه العجالة، وتتعلق بواقع المواصلات والتنقل في ذلك الزمن الجميل، لم تكن هناك صعوبة كبيرة في الحركة والتنقل في الجزيرة لصغر مساحتها المسكونة حينئذ، وإن كانت بطيئة ومحدودة الخيارات، لكننا نصل إلى حيث نريد.. وكانت الحمير الأصيلة قريبة من حجم الحصان، تراها تجر عربة شديدة الحمولة بكل يسر، كان الحمار، في طريقه إلى داخل الديرة المرتفعة، يسحب ذلك الحمل الثقيل من الأغراض من السوق وكأنه يتسلق الطريق، ونادراً ما تجده عاجزاً عن إكمال مهمته.
ومن الأمور التي أذكرها في هذا المجال أن الدفعات الأولى من السيارات في بداية التحول الاقتصادي واجهت تحديا طريفا من وسيلة المواصلات السائدة حينها، في المنعطفات والطرق الضيقة (الزرانيق) حيث يصعب التفاهم عند منحنى الطرقات الضيقة في الجزيرة، والديرة على وجه الخصوص، وللأسف يكون ضحية هذا الوضع الملتبس بعض المارة لا سيما النساء المثقلات بما يحملن من ماء وملابس في طريقهن من وإلى (العين العودة) فتكون النتيجة للأسف، إصابات تصل لحد الكسر، ويفاقم الأذى غياب الرعاية الطبية وغالبا ما يتم نقل المصابة إلى سيهات، هذا قبل أن يتم انشاء مستشفى حكومي في بلدة الربيعية الجميلة.
طبعا تغيرت الحياة لاحقاً، وامتلأت الجزيرة بالسيارات، وانسحب الحمار من السباق برغم تاريخه ودوره المحوري السابق في ميدان النقل والحركة فيها، ولعلني لا أبالغ في الوفاء، إن صح التعبير، لو أشرت إلى جمال هذا المخلوق الخدوم الصابر المتحمل، حقا ما أحلى حمير البلد!!، كانت كباراً في أجسامها وفي أدوارها، وكانت جزء فعالا في حياة الجزيرة وأهلها، وكان أصحاب الحمير يعتنون بها كثيراً لدرجة الدلال، وكان بعض ملاّكها يقومون بتزيينها برسوم وزركشة من الحناء، فترى الحمار جميلا مختالا يمشي مفتخراً بحلته الجديدة.
ومما يسعدني شخصيا، أن حمير الجزيرة لم تنقرض ولن نتركها تنقرض، بل ألاحظ عودة جيدة لها ولدورها في كثير من مناطقنا الريفية، لأنها فعلا جزءاً من تراثنا وحياتنا في فترة غالية من تاريخنا، فكم ذهبنا محمولين على عربات الحمار (القاري).. نشق الطريق في البر والبحر، حيث لم يكن آنذاك جسر بين جزيرة تاروت والساحل القطيفي، وكنا أحيانا عندما يتواجد المد البحري نسبح بقرب الحمار ممسكين بطرف العربة (القاري)، لنعبر من الخور وهو الجزء الأعمق من البحر، ولك أن تتصور شعورنا، وكأننا نمخر عباب نهر بحري هادر.
ولله الحمد، كان البحر آمنا، خاليا من أسماك القرش (الجراجير)، التي قد تتواجد في أماكن أخرى، وعندما يكون القمر مكتملا يصعب عبور البحر، فنبقى في القطيف يوما حتى ينحسر المد ونقول حينها (انحسرت المايه)، والغريب أننا لسنا الوحيدين الذين يسلكون هذا الطريق، فهناك جم من موظفي أرامكو الأمريكيين الذين يزورون الجزيرة كل أسبوع للاطلاع على مواقعها الأثرية، ونلاحقهم أحيانا لعرض ما لدينا من لؤلؤ للبيع.
ومن طريف ما حدث، أن بعض السائحين كانوا يمرّون في الطرق الضيقة للديرة بجوار القلعة الشهيرة، وفي أحد المنعطفات تواجه أحدهم مع امرأة تحمل قدور الماء على رأسها، وكانت محجبة كالعادة، وقد بللّت بعض قطرات الماء غطاءها، فصعب عليها تبين الطريق، فاصطدمت فجأة بالزوار، وانسكب الماء عليهم فتلقت منهم سيلا من السباب والشتيمة، وعبّرت عن نفسها مستغربة لما حدث بكلمة (يو ويش صاير)، وذهبت المجموعة تتمتم: حتى النساء هنا تعرف اللغة الإنجليزية معتقدين أنها سمعت وفهمت ما قيل لها من سب فردت: يو يعني “أنتم بالإنجليزية”.
وإخواننا في دارين (الجزء الجنوبي من الجزيرة) كانوا أكثر واقعية في هذا الصدد، حيث كانوا يستخدمون القوارب للانتقال من وإلى بلدتهم، وكان بعض المستعجلين يستأجرون القوارب للانتقال من ميناء دارين عند صعوبة العبور عن طريق عربة الحمار.