[2] حسن الشيخ علي الخنيزي.. أديب وإداري لم يُنصفه المترجمون 1900 ـ  1966م ـ بستان السيحة وسمر في الذاكرة

عدنان السيد محمد العوامي

شيء من أدبه ـ المقالة الأولى

رأيتُ له كلمة تأبينية في تأبين ابن عمه؛ الزعيم الديني الشيخ علي بن حسن علي الخنيزي، أبي عبد الكريم، عنوانها: (الخلود من آثار العمل)، نصُّها([1]):

(لا أستطيع أن أترجم لزعيمنا – ولو أُوْتِيْتُ طاقةً من البيان- ترجمةً تحيط بحياةٍ تسنَّمت ذروة المجد؛ إذ القولُ في شخصيةٍ خدمت النوع الانساني، في وسط محتاج إلى مثله – لا يُوَفِّي بعضَ حقها. إنَّ العمل الفذَّ هو ما كان محفوفًا بنشاطٍ وإخلاصٍ نحو تحرِّي الفائدة، فبالطبع إنَّ هذا العملَ سيكون مثلًا أعلى، ونبراسًا يُسار عليه، وقبسًا يُستمدّ من ضوئه، وإن صاحِب هذا العمل الفذّ، رجلٌ حلّق في جو المعالي مذ كان يافعًا، وتسنَّم الشرفَ حين كان شابًّا، وصار زعيمًا في الشيخوخة.

میلاد فقيدنا – في أقرب تحرٍّ صحیح- عام 1285هـ، ووفاته في 3 صفر 1362هـ. فسِنِيُّ حياته العامة بجلیل العمل: سبعة وسبعون، عمل فيها – من مهده إلى لحده – للصالح العام.

الشيخ علي أبو عبدالكريم الخنيزي

في سِنّه الباكر امتهن التجارة، فأقبلت عليه سعادة المال، ولكنه خُلِق لغير هذه الحياة؛ لأنه مسجّل في زمرة العلماء والزعماء، فلا يرضی بالسعادة المادية وحدها، فراح يجدُّ لسعادتين عظيمتين: العلمِ والمال، ولكنه رأى أن لا اجتماعَ للعمل في سبيل هاتين السعادتين، فهما على طرفي نقيض، فكان في مخيّلته صراع عنيفٌ بين العلم والمال، وأخيرًا آثر التجرُّدَ من عالم المادة إلى عالم الروح، فانصاع إلى حياة آثرَها عقلُه، فقاطع التجارة، وتحمَّل مشقّة السفر، وهجر الأهل والوطن، میمِّمًا شطره تلقاء مدينة العلم والإلهام “النجف الأشرف” وذلك في سنة 1308هـ، فشمّر ساعدَه بجدٍّ متَّصل، وبغير ملل أو سأم، وبصورة منقطعة النظير، ففي زمن قصيرٍ لا يتجاوز خمس سنوات، أكمل دورة السطوح، وهذا أكبر شاهد على المثابرة والاجتهاد، وإنه لشاهد ناطق على حِدَّة الفهم واعتدال السليقة.

کرَّ راجعًا لوطنه يجدّد عهده بوالده الحنون، وبأهله الكرام، ووطنه الحبيب، ولأمر ما في نفسه في سنة 1316هـ، ومكث بضعة شهور، تزوّج خلالها، غير أن الحافز الذي دعاه -أمس- للهجرة لا زال يستحثُّه -اليوم- للعودة، فآب في سنة 1317هـ إلى مهد العلم، إذ لم تتحقّق -بعدُ- أمنيَّته التي رحل من أجلها بالأمس، فشمّر ساعد الجد -مرة أخرى- في البحث والتدريس، مجدًّا لاكمال رسالته؛ ليؤدِّيَها كاملة غير منقوصة، وهنالك ازدحم الطلاب على منهل معارفه، فصار أستاذًا لكثيرين، وأخرجت مدرسته علماء فضلاء إلى جانب مثابرته على حضور البحث الخارج تحت منابر التدريس لأَبطال العلم. وما إن لمسوا منه ملكة الاجتهاد حتى أجازوه إجازاتٍ ناطقةٍ بلسان واحد: أنه بلغ المكانة العلمية السامية -معقولًا- وبلغ الرتبة الاجتهادية في الفروع، فهو عَلَم يُلتجأ إليه، وقبسٌ يُهتدى بضوئه.

رجع إلى وطنه وبيده تلك الإجازات التي تعرّف من وقَف عليها أن حاملها حجة يجب اتّباعه، والأخذ بهديه، فاستقبله مواطنوه في حفل باهر، يتصدره والده الجليل المرحوم الحاج حسن علي -ذو المعروف على أهله ومواطنيه- فانضم شرف الأب إلى شرف الابن، وازدوجا حتى صار مصداقًا للمثل: «كأنه علم في رأسه نار».

حل في وطنه سنة 1323هـ. وكان سِنّه – آنئذٍ – ثمانيًا وثلاثين سنة، وهو يحمل – إلى مكانته العلمية، وبيتيته السامية – عقلًا كبيرًا، وحِلمًا رفيعًا، وسعة صدر، مما جعل مواطنيه يُعجبون بعقله وبحلمه، وأنه دمث الخلق إلى حدٍّ قصي، ينطبق عليه المثل الحكيم “لِيْنٌ بدون ضعف، وشِدَّة بدون عنف”، وقد كان – بحكم منزلته العلمية والاجتماعية – من تقلّد زعامة بلاده، دينيًّا واجتماعیًّا، فصار من الأعلام التي يلجأ إليها في الحوادث والملمّات، فكلما يحدث حدث خطير اجتمعوا لديه، ينتجعون من رأيه السديد، وخططه الحكيمة الرشيدة، فرأيه متبع، وهو أحد الظلال الوارفة، والكهوف المحصنة، التي إليها يفزع المواطنون في كل عملية وشدة.

كانت بلاده، القطيف، خاضعةً للحكم التركي، والقضاء الشرعي لما يزل -بنظر الحكومات- منصبًا رسميًّا، يتولّى تنصيب القاضي صاحبُ العرش، وذلك منذ عهد الخليفة عمر (رضي الله عنه)، ومعلوم إن الإمامية الجعفرية تراه: منصب من بلغ رتبة الاجتهاد، وهو منصب عظیم خطير. وهذه المؤهِّلات المجتمعة في شخص مترجَمنا، سوَّغت له أن يحلَّ في دست القضاء، مع شدّة في اللَّه، وكان – مهما عظمت شخصية الخصمين – لا ينظر إليهما إلَّا نظرة واحدة، حتى يأخذ الحق لصاحبه.

إن مِن معتقد الإمامية: أنّ من اجتمعت فيه شروطٌ  منها: الاجتهاد والعدالة- وحكم بحكم فرُدَّ عليه، اعتبر ذلك الرادّ عاصيًا، مستخّفًا بحب اللَّه ورسوله، فكانت الأنظار توجّه إليه من خلال هذه العقيدة.

كان -في أحد الأيام- جالسًا في صدر النديِّ مع والده، وإذ برجل من البدو، قد أقبل على الشيخ فسلَّم عليه، وجلس متأدّبًا قائلًا له: “إن لي على والدك دعوى، أرغب المقاضاة فيها عندك، فأجابه: ادعُه للمحاكمة. فدعا البدوي والد الشيخ للمحاكمة، ولما كان القانون الشرعي يحتِّم على المتخاصمين – حال محاكمتهما، مهما كانا- أن يتساوی بهما المجلس، فما كان منه إلَّا أن طالب أباه بإنفاذ هذا القانون، فلم يقبل البدوي. وهذا عمل يعطينا صورة عن تقديسه للقانون الشرعي، وما إن تجلَّى له أن الحق في جانب البدوي حتى أخذه إليه من أبيه، وبهذا العمل الفذّ صار البدو يُكبرون فيه عظمة المبدأ، ممّا دفعهم إلى التقاضي لدیه. فحل لهم مشاكل عويصة بينهم، وكانوا يتّبعون قوله اتّباع الظل لذي الظل.

في سنة 1326هـ حدثت فتنة بين أهل البلاد وبين البدو استعصی أمرها، وتأزّمت الحالة إلى امتشاق الحسام بين الطرفين، فأطلقت بين الجانبين أفواه البنادق والمدافع، فاصطلى الطرفان بسعيرها، وخسر الجميع ضحايا فيها، فواسى الشيخ مواطنيه في هذه الكارثة السوداء، وخرج ذلك الفقيه المسالم الوديع، في حلّة شجاع مغوار، فتقلَّد السلاح تنشيطًا لعزائهم عن الخوار. وكان في طليعة الشجعان البواسل أخواه، فقتل أحدها وجرح الآخر جرحًا عظيمًا، أدَّى إلى سقوط يده اليسري إلى آخر عمره ([2]).

وفي سنة 1331هـ نزل علَم تركيا عن بلاده القطيف؛ وخفق عليها علم حكومة جلالة الملك ابن السعود، فأُسند إليه أمر القضاء الشرعي لكافة المواطنين، فصار قاضيًا رسميًّا، وقاضيًا شرعيًّا بحکم منصبه الديني، وقد أُعجبت به الحكومة الجديدة إعجابًا بعيد الحدود. فصار نافذ الحكم، مجاب الشفاعة، فلم يُخرجه هذا عن دائرة اتِّزانه، بل زادته عطفًا وتواضعًا وعفوًا، لا يُعمل العاطفة، فكان يعفو عن المسيء إليه، ويقابل بالإساءة فلا يُعيرُها نظرة، ولا يعبأ بفاعلها مهما كانت صفته، وكان عمه المرحوم الحجة الفيلسوف الإمام أبو الحسن الخنيزي يقول: “إن ابن أخي انطبق عليه المثل: (لا يطير بعيدًا، ولا يلزم باليد)”.

كان يحب الوطن لحد التفاني فيه، فمنذ حلَّ في دست القضاء -1323 – 1362هـ- لم يحدّد وقتًا للتقاضي، فأوقاتُه كلها في خدمة الوطن، فهو يقضي بين الخصوم حتى في المسجد والشارع، بالإضافة لمجلسة الخصيص للقضاء، وإنه ليشغل منصبه الكبير بالإضافة إلى أعماله الخاصة الكثرة، وإنه ليزاول تلك الأعمال بنفسه دون أن يشاطره فيها غيره، وإنها لأعمال شاقَّة مجهدة تشغل كل أوقاته عن التأليف، ولكنه – مع كل هذا – قد ألَّف بعض الرسائل: منسك في أعمال الحج، بسط فيه القول بسطًا جميلًا، ورسالة عملية لا تتجاوز المسائل الشكية، وبعض الفروع، وبضع (كراسات) شرح على (التبصرة)، وكان يسعی –دومًا – إلى إصلاح ذات البين بين الخصوم، ولا يرجع إلى الحكم الشرعي إلَّا إذا استعصى عليه الإصلاح، بعد أن لا يدع سبيلًا للإصلاح إلَّا سلكه من صبر وهدوء، وترغيب وترهيب، فكثيرًا ما لاقى الصعاب في سبيل ذلك، حتى يكون النصر بجانبه أخيرًا، فيهيمن على الخصوم حتى يسلموا له القياد.

هذه صفحة من صفحات حياته قصصتها عليك، أيها القاري الجليل، والحديث متّسع، غير أنه لا يسعني أن أستقصيَه، ولكن البعضَ يدل على الكل، وإن مترجمنا لم يزل يدير منصب القضاء حتى نَفَسه الأخير، بدون أجر يتقاضاه. نعم، إن له الأجر والثواب من الخلَّاق القدير، فعلى تلك السيرة البيضاء ختمت صفحة حياته الخالدة، صبَّ اللَّه على جدثه الرحمة والرضوان، وخلف على مواطنيه، إنه مجيب الدعاء.

القطيف: 12 شعبان 1371هـ).

المقالة الثانية

منشورة في مجلة العرفان([3])، عنوانها: (عبقرية الألم)، وهي تقريض لملحمة عيد الغدير للشاعر اللبناني بولس سلامة، إليك نَصُّها كاملًا:

(طُبع الانسان على حب الإطلاع على ما في الكون؛ فهو يسمو بفكره إلى درس حقائقه؛ ليجلُوَ أسرارَه، وليكتنِهَ حقائقه، مجدًّا باحثًا وراء ضالِّته المنشودة بلهفة شديدة إلى الدرس والتحقيق؛ ليتحصل على شيء من درسه وتحقيقه، وما اكتشفه من أسرارٍ غامضة دقيقة، حَرِيَّةٍ بالمعالي التي تسمو لها النفوس البشرية حسبما طبعت عليه، فتجد كلَّ فردٍ له مميزات خاصة تخصصه؛ لأن يكون الفردَ المشار إليه في ما تخصص له، ويأتي بما تخضع العقول معجبة بسمو مداركه، وفي درسنا هذا نخص القول في الشعراء وطبقاتهم. خذ مثلًا: إن شاعر الصحراء يعطيك صُورًا شعرية، فيصف لك الصحراء، ويتغنى بوصف رمالها وأحجارها ووحشتها وإبلها وضأنها، فإذا درسنا شعوره درسًا حقيقيًّا، وجعلناها على منصة التشريح؛ ينتهي بنا الدرس والتحقيق للإذعان بأنَّ شاعر الصحراء له اليد الطولى على الأدب، وأنه المؤسس الواضع الحجر الأساسي في عقد الشعور بصورة منظومة تسمو لها كل نفس شاعرة لتقديس هاتيك العقود الجبارة المدهشة جودةً وإتقانًا، فتُكْبِر ذلك الإنسان الفذَّ، وأن خياله الشاعر قد أبدع صنعًا تهفو له الأفئدة تقديسًا وتعظيمًا خالدًا.

 ثم يطَّرِد بنا البحث لدرس شاعر المدينة، فنجده يصوغ لنا شعورَه بحُلل قشيبة مترفة مرهفة الحس والوجدان، منظومة بسلك جذَّابٍ، يصف لنا الحسناء الفتَّانة ووجنتيها الحمراوتين([4])، وعينيها الناعستين، وعنقها الأتلع، وجيدها الأجيد، وخصرها الدقيق، وردفها الثقيل، ومعصمها البضَّ.

ثم ينساق الباحث لتحليل شاعر الطبيعة دارسًا محقِّقًا، فيجده يصف الطبيعة وصفًا دقيقًا، وأنه ناظم عقود الطبيعة بسلكها الذهبي، يصف الحدائق الغنَّاء، والأشجار الباسقة، والرياض الأنيقة،  وأزهارها العطرة، والطير وتغريده، والماء وخريره، والريحان وباقاته، وشقائقه.نجد هذه السلسلة مختالة بفنها الجميل، وبيانها السحري، وتطريزه الموشَّى في عقود منظومة.

 قدَّمت إلى القرَّاء هذه المقدمة؛ لأجلوَ لهم صفحةً من صحائف الألم، فلما وصل بنا البحث لهذه المرحلة نتساءل: هل للمتألم شعور يفيض شعرًا؟ “نعم”. نجد الألم  يدفع الشعراء إلى تصوير شعورهم بقصائدَ كلُّها تبرُّم وتشاؤم وتضجُّر، وهذا ناتج عن آلام نفسيةٍ يبعثها طلب ما لا يمكن الحصول عليه، فما ظنُّك بشاعر لبِث تحت المِبَضع على سرير المرض المؤدي إلى عمليات جراحية عديدة عدَّةَ أعوام، وهو في ألم يذهل العقول، ويذيب النفوس؟ نعم. حدثنا التاريخ – وما أغرب ما حدثنا التاريخ – بوجود فردٍ يَعُدُّه علماء النفس نادرةً من النوادر، أو فلتة من فلتات الكون، كلما لج به الألم فزع إلى شعوره فيجد أمامه أفقًا واسعًا، ومجالا رحبًا، فيسير ممزِّقًا للحُجُب الكثيفة، المسدلة على حقائق التاريخ، راسخ القدم، ثابت الجأش. ذلك هو الأستاذ العبقري الشاعر “بولس سلامة”. وقف وقفة الأديب المنصف، فأخرج لنا الكنوز والدفائن التي طوَّق بها الأدب، فجاءت غرَّة في جبين الدهر، وحِلْيَة يتحلَّى بها طلاب الحق، والحقيقة؛ ألا وهي ملحمته التي تضمنت تاريخ الأمة العربية الصحيح، فهي كخارقة من خوارق القرن  العشرين، أو كمعجزة من معجزات العظماء النبلاء الذين يخلُدون، وبخلودهم تخلد الأمة.

إي، أستاذ بولس، حيَّاك الله! إنَّ ملحمتك التي جعلت فيها قِبْلتك نبراس البلاغة، وينبوع العلم، أبا الفضائل، مجلِّي حلبتها، وسابق مضمارها “عليًّا” أمير المؤمنين، ووسمتها بملحمة “عيد الغدير”، فهي نفحة قدسية عطَّر الكونَ أريجُها، وهي غذاءٌ للعقول، وشفاء للنفوس. إي، أستاذ بولس، ليس بولسُ لحمٌ ودمٌ فحسب، أنت مثال للحق والحقيقة، أنت هيكلٌ لا كالهياكل، أنت شاعر لا كالشعراء. نعم! دفعك شعورك المتألم إلى عقد ملحمتك، فطلعتَ علينا في سلك من نورٍ، نظمت فيه الجوهر واللؤلؤ. أيها الأستاذ بولس، إن ملحمتك هذه لمنهلٌ عذبٌ لروَّاد الحقيقة والأدباء يرتشفون من زلاله علًا ونهلا([5])، وعسى أن تكون قبلةً لهم يؤمون شطرها. إي أستاذ بولس، لم تكن لتتسلى بإنشاء شعورك بالكأس والطاس، أو بالحسناء الفتَّانة، أو بالطبيعة وما فيها من مناظر فتَّانة، بل عمدت – يا أستاذ – إلى إبراز سفر جديد من نوعه تُغبط به أمتك، ويغبط به الأدب العربي، وهذه رسالة من نور قمت بها لم يسبقك إليها سابق، وأنت الأصل لمن ينهج نهجك. فحياك الله أيها الأستاذ الفيلسوف، وحيا الأمة التي أنت منها، وأرى في تقريضي هذا لك كفراشة تحوم حول السراج، تكاد عظمتك أن تلتهبني فتواريت، فخلدت إلى الصمت، والسلام عيك ورحمة الله وبركاته([6]).

القطيف – المملكة العربية السعودية.         حسن الشيخ علي الخنيزي

 

ومن رسائله الأدبية

رسالة للشيخ محمد جواد مغنيَّة (رحمه الله)([7])نشرت في مجلة العرفان([8]) بعنوان: (خواطر)، استهلها بقوله:

(إلى عنوان الفضل، العلامة الشيخ محمد جواد مغنيَّة أدامه الله عزًّا للإسلام.

يتنازع كلَّ كائنٍ حيٍّ عاقل حساس: النهوضَ إلى العلا، حتى ولو كان معدوم المؤهِّلات الفطرية والكسبية، وهذا أمر لا تفوز به الأكثرية الساحقة، بل الذين تسعفهم الفطرة، ويسعفهم الكسبويواتيهم الظرف، وهم قليلون جدًّا.

أما الذين رزقوا الفطرة، ورزقوا الكسب، وعاكسهم الظرف فهم كثيرون جدًّا، والذين قد تأخروا مع مواهبهم الفطرية، ومع ما اكتسبوه من ثقافة فهم أكثر؛ لذا ترى في سجل التاريخ كثيرًا من الشعراء والكتاب يفيض شعر الشاعر ألمًا ممضًّا لتأخره عن رتبة هو أحق بها ممن سواه، وترى الكتَّاب تنضح صفحات كثيرٍ منهم بما يغمر القارئ تأسُّفًا وتحرُّقًا، وهذا أمرٌ لازمٌ لطبيعة البشر؛ إذ الظروف كثيرًا ما تقسو على قوم وتلين لآخرين. يقول الطغرائي:

تقدَّمتني أناس كان شوطُهُمُ

وراء خطويَ؛ إذ أمشي على مَهَلِ

وكما يقول حكيم العرب المتنبي:

وفي كل يوم تحت إبطي شُوَيْعِرٌ

ضعيفٌ يقاويني، قصيرٌ يطاول

إذ الشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، فمن هنا نشأ تنازع البقاء، وحل الحسد في البين، وأخذ التنازع يظهر بشكل مرعب مُريع، فمنذ القِدم حدثتنا الكتب السماوية، عن أقاصيصَ لا شك في وقوعها؛ كقصة ابني آدم عليه السلام، وغيرها ما يحتاج إلى سِفْرٍ ضخم، ووقت طويل، فمن هذا التنازع حصل التصادم بين الفريقين، وجيَّش كل فريق على الآخر جيشًا لجبًا للاستظهار عليه.

وهكذا دأب القوم يلتمسون الشرف، وكلهم يسعون وراءه، وقام التنافس بين الفريقين على سوقه يُعجب الزُّرَّاع، وأخذ كل فريق يتتبَّع الفريقَ الآخر في كل حركاته وسكناته. وهذان عاملان أشبههما بمعول هدام وآخر بنَّاء، تكون من أجل ذلك الشجار ثروة أدبية، وعلم جمٌّ ملأ الطروس والدواوين، وصرحٌ يلجأ إليه كل من الفريقين، ومن هنا أخذ المتأخر يرمق المتقدم رمقًا ملؤه الحسد والبغضاء، ويتبعه في سيره، فهو له بالمرصاد، والمتقدم لم يخفَ عليه تتبع من تأخر عنه، وهذا القول من الشعر الحكيم يصح الإتيان به شاهدًا على ذلك، فهو يصور الواقعية حيث يقول، وإليكه:

إن يحسدوك على علاك فإنما

متسافل الدرجات يحد من علا([9])

فهذه ظاهرة يجب على الظافرين أن يخُصُّوها بوافر من العناية، فينهجوا النهج الموافق إلى العلا بقدر الجهد والطاقة، وحقيقٌ بي أن أجعل الببيتين من الشعر الحكيم هدفي  الوحيد، في قول الأول، وتمهيدًا لقولي التالي بشرحي لهذين البيتين:

عُداتي ([10]) لهم فضل عليَّ ومنَّةٌ

فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا

همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فارتقيت المعاليا([11])

   لعمر الحق! هذا نموذج عالٍ، وسلسبيل عذب قد قدمه هذا الشاعر الحكيم، يعطيك صورة ناصعة بدلا من التبرم والتشاؤم، بل عمد إلى صورة بشعة صاغها تمثالًا فنِّيًّا في صورة شعريَّة، ومثلًا أعلى، وقيثارةً يعزف عليها كل فنان ذي موهبة مثالية كهذا الشاعر الحكيم الفيلسوف الاجتماعي المبدع، وقد صور لنا من معول الهدم بناءً فخمًا لا يدخله إلا من تشرَّبت نفسه بالمعالي والفضائل، وأخذ بالنصيب الأوفر، والقدح المعلَّى، فنهل منها حتى النهاية، وعلَّ منها للغاية، فأمسى ممتطيًا متن الفضائل، لا يشق له غبار، وهذا أمرٌ ليس من السهل من الثقافة والمعارف. أجل، هذه هي الفلسفة الاجتماعية التي يجب أن تُرعى، وهذا هو السموُّ المنشود، والمقصد الأعلى لهذا الشاعر الفذِّ، لا كما يقول الشاعر الذي أخذ وافرًا من التبرم والتشاؤم، والأثَرَة وحب الذات بقوله:

صفا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري([12])

وفي هذا من الألم النفسي الناشئ من معاكسة الظرف، القاسي قسوة دفعته إلى هوة سحيقة، وقد جاء في مطاوي القول أدلة تؤيد ذلك، وأخرى تقصر عن المعنى الذي من شأنه البناء الفخم.

والمعنى الشعري الفنِّي، العالي من ألقي إليه السمع وهو شهيد، وقايس بين قول الطغرائي وقول حكيم العرب المتنبي وقول غيرهما مما يندمج في سلك ما قصصته عليك سابقًا، تره([13]) هدَّامًا، يُدِب إلى النفوس الخوار، والتشاؤم والتبرم، أما الشاعر الحكيم فأخذ على كاهله البناء، فهو ذو نفس جبارة، قدم لأمته وخلق لها من السم الزعاف كأسًا هنيئة شافية من علة المرض النفسي. وهذا علاج لا يتسنى للأطباء، أجل، لا يتسنى إلا لمن فحص الداء وشخَّصه تشخيصًا لا يستطيع سواه من الأطباء أن يأتي بمزيد، وقدم الجرعة الشافية التي لا تجد غيرها من الجُرَع تشفيه، فأنت تخضع لهذه، وتحتم عليك أن لا تتعب نفسك، ولا تجدَّها في طلب غيرها من الجُرَع :

“وهم نافسوني فارتقيت المعاليا”)

هذه هي الداء العضال، ومنها الدواء الفعال.

وحقيق بي أن أعجب من شاعرنا الحكيم الاجتماعي، كيف يدعو الرحمن أن [لا] يبعد عنه الأعاديا؛ إذ الحاسد المنافس مذموم، يصرح بذلك ما جاء في الفرقان العظيم، وهذا الشاعر تراه معرضًا عن ذلك غير متدبر لما جاء في الفرقان العظيم من الآيات الذامة للحسود، المشفوعة بما ورد عن سيد المرسلين (ص) وعن عترته الهادين (ع).

كلا. لم يعرض عن ذلك، وإنما من الآيات والأحاديث وقول الحكماء والشعراء فيها حضٌّ عظيم، وتحريضٌ ملحٌّ على طلب المعالي، واكتساب الفضائل، والتخلي من الرذائل والمآثم، وذم الطيش، والغرور، والغطرسة، والكبرياء.

ولعمري من نهج على ذلك كان الأوحديَّ من البشر، ممن هم كهذا الشاعر الحكيم، الذي يهيب بأمته إلى الأخذ بالمعالي والانسان بطبعه الساذج ميال إلى الاسترسال مع شهواته. إذن التنافس الذي هو من دعائم الفضيلة (فضيلة) تتبارى في ميدان السباق، فهو ضروري للإنسان؛ إذ هو مدرسة كبيرة، وأستاذ أعظم يدلك على مواقع الخطأ، ويأخذ بيدك إلى درجات الصواب، ويرشدك إلى العمل الصحيح، ويعرفك أن الأقوال الفارغة هراء، وسخف، ويشير عليك كيف تنزل إلى الكفاح.

فالتنافس في المعالي من شأنه أن يغرس في النفوس كل بكر حسناء، وفي الأفكار كل غادة جميلة يعشقها رواد الفضيلة، ذوو الرأي السديد الحصيف، ينظرون إلى المعالي بثاقب أفكارهم الحكيمة، غير هيابين. إنَّ سفسطة العدو والحاسد الذي يحط محسوده، فالحسود كفراشة تحرق نفسها حين ترى السراج، فتلقي بنفسها عليه فيحرقها، فتكون في خبر كان.

وبهذا الشعور يَغمط حقوق محسوده، ولو كانت طودًا أشمَّ، وبحرًا تيارا، وعبابًا زاخرًا، ويحسن بي القول الإتيان بما يترجم حال الحسود الواقعي بما نظمه هذا الشاعر اللوذعي:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت، أتاح لها لسان حسود([14])

أو كما قال الشاعر

ترى الفتى ينكر حق الفتى

ما دام حيًّا، فإذا ما ذهب

لجَّ به الحرصُ على نكتة

يكتبها عنه بماء الذهب([15])

 أجل، هذا هو الذي يجعل أمامه قول هذا الشاعر الاجتماعي، ويأخذ بتعليمه السامي، آخذًا بالحزم والاحتياط؛ إذ هما الكفيلان أن يقوداه لرصيف السلامة، ويعرفه أن لا يجعل قدمه قبل وضعها إلا محمل ثابت.

القطيف – القلعة – المملكة العربية السعودية.

حسن ابن الشيخ علي الخنيزي

————

([1])ذكرى الزعيم، الشيخ عبد الله ابن الشيخ علي الخنيزي، المطبعة العلمية، النجف، العراق، الطبعة الأولى، 1373هـ، ص: 132.

([2]) هي الواقعة المعروفة بسنة الشربة..

([3])أسسها ورئس تحريرها الشيخ أحمد عارف الزين، أصدرها من بيروت أولا في 5 شباط 1909م، ثم في العام 1910م تأسست مطبعة العرفان في صيدا، فنقلها إليها، وبعد وفاة الشيخ انتقلت إدارتها إلى نجله نزار عام 1960 حتى العام 1981، وفي العام 1982 واصل إصدارها السيد فؤاد الزين؛ حفيد الشيخ أحمد، إلى أن توقفت عن الصدور عام 1996.

([4]) خطأ طباعيٌّّ صوابه: الحمراوَين.

([5])العَلُّ، والعَلل بالادغام: الجرعة الثانية من الشرب)، والنهل: الجرعة الأولى.

([6]) مجلة العرفان، صيدا، الجزء 6، المجلد 37، شعبان 1369هـ، يوليو، حزيران 1950م، ص: 670 – 671.

([7]) الشيخ محمد جواد مَغنية (1322 ــ 1400هـ). فقيه ومفسّر، وعالم دين معاصر، ولد في لبنان وأتم تحصيله العلمي في النجف، شغل منصب رئيس المحكمة الجعفرية العليا في لبنان، ثمّ عين مستشارًا لها. أحد دعاة الوحدة بين المسلمين، له العديد من المؤلفات في مختلِف العلوم الفقهية، والفلسفية، والتاريخية، والعقائدية. ألّف كتابين في التفسير هما: التفسير الكاشف في سبعة مجلدات، والتفسير المبين، مجلد واحد.

([8])العرفان، الجزء: 5، المجلد: 38، رجب 1370هـ نيسان 1951م، ص: 579.

([9])البيت للشيخ علاء الدين علي بن الحسين الشفهيني  الحلّي، من أهل القرن التاسع الهجري، من قصيدة يمدح فيها الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام مطلعها:

يا مَنْ إذا عُدَّت فضائلُ غيرهِ

رَجَحَت فضائلهُ وكانَ الأفضلا

([10]) في مجلة العرفان: عداي، والمثبت من فوات الوفيات.

([11])البيتان لأبي حيان الغرناطي الأندلسي (654 – 745هـ)، انظر: فوات الوفيات، والذيل عليه، محمد بن شاكر الكتُبي، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، د. ت. جـ4/74.

([12]) البيت من أبيات لطرف بن العبد هي:

يالك من قبُّرة بمعمر

خلا لك الجو فبيضي واصفري

قد رفع الفخ، فماذا تحذري؟

ونقري ما شئت أن تنقري

قد ذهب الصياد عنك فابشري

لا بد يومًا أن تصادي، فابشري

ديوانه، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1406هـ، 1986م، ص: 46.

([13]) في الأصل: تراه، والفعل هنا جواب للشرط: قايس، فحكمه الجزم.

([14])البيت لأبي تمام. انظر شرح ديوان أبي تمام، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه راجي الأسمر، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1414هـ، 1994م، جـ1/213.

([15])من الشعر التائه، متدول لكن قائله مجهول.

 

اقرأ الحلقة الأولى

[1] حسن الشيخ علي الخنيزي.. إداريٌّ أديب لم ينصفه المترجمون

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×