[2] المنهج العلمي.. الأصول والشروط

محمد حسين آل هويدي

بسم الله الرحمن الرحيم: … «259» وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «260» … صدق الله العلي العظيم – البقرة.

تحدثنا من قبل عن طريقة الحصول على المعلومات وذكرنا منها خمسا: الحواس، الاجماع، رأي الخبراء، المنطق، المنهج العلمي. ناقشنا أربعة منها. اليوم نتطرق للخامسة، أي المنهج العلمي.

يعتبر المنهج العلمي أهم طرق الحصول على المعلومات الصحيحة وأصدق أداة يتعاطى معها البحاثون. وللمنهج العلمي شروط محددة. وما حاد عنها لا يعتبر منهجا علميا. كثيرون قد يظنون أن منهجهم علمي، ولكن خبراء البحث والمنهج العلمي لا يتفقون مع كل من ادّعى. ومن أهم بنود المنهج العلمي أن يكون عموميا ومتاحا للجميع وله جماهير من خارج أهل الاختصاص (تتحقق فيه شروط الشياع). المطلوب فعله في هذا المنهج إيجاد علاقات مشتركة يطلق عليها “حقائق”. وهذه الحقائق عبارة عن خاصية من خصائص العالم الذي نعيش فيه. في هذا المنهج، نحن نتعامل مع حدسيات وتخمينات يطلق عليها أهل الاختصاص مسمى “فرضية”.

المطلوب من الباحث دراسة هذه الفرضيات بصورة دقيقة في ظروف خاضعة للرقابة والتحكم. وعليه يحكم إن كانت هذه الفرضيات صحيحة، مع شرط الحصول على نفس النتيجة لو تم إعادة التجربة في ظروف مشابهة. مثلا، عند سطح البحر، الماء يتبخر عند درجة 100 سيليزيوس. بينما درجة حرارة التبخر على سطح الجبال أقل نظرا لخفة الضغط الجوي. وعليه، عندما نقول إن درجة تبخر الماء 100، لابد أن نفهم أنها مقيدة بمستوى سطح البحر (وأمور أخرى ذكرها لا يزيد أي شيء من متابعة المحتوى). أمر مشابه لذلك القول بأن درجة حرارة الإنسان السليم 37؛ ما زاد أو نقص دليل خلل.

نذكركم بأن المنهج لا يعتبر علميا إلا إذا كان مشاعا ومتاحا للجميع وله جماهير ذات كفاءة من خارج أهل التخصص. الإجراءات الخاصة خارجة عن المنهج العلمية. ومثال ذلك، الفتاوى الدينية التي لا يمكن اعتبارها منهجا علميا وذلك لأنها بعيدة عن متناول الجماهير. لم نجد مفتيا ذهب للحج وراقب ودوّن ملاحظاته وأشرك في أمره الجماهير والحملدارية للوصول إلى فتوى عملية تتناسب مع أوضاع الحج. المفتي يعتمد على رواية تم نقلها بالأفواه من قبل ألف سنة حين كانت الضوامر مكشوفة، وهذا بعيد في الواقع عن مفهوم المنهج العلمي الحديث. طبعا، لكل تخصص أدوات، ونحن لا نجلدها حينما نصفها، ولكن الدراسات الدينية الخاصة في أنحاء العالم لا تتبع المنهج العلمي المتعارف عليه. كل دين خاص وكل مذهب خاص، أيضا. الحج اليوم مقيد بالظروف التي عاشها النبي (ص) وأصحابه وليس بمستجدات العصر. النبي (ص) عاش ظروفا لا يمكن إعادة تجربتها اليوم. قد كان ما حدث حينها مناسبا نظرا لتلك الأيام. ولكننا اليوم نعيش ظروفا مختلفة تماما. الجلوس على ناقة هزيلة تمشي بسرعة 10 كم في الساعة يختلف تماما عن الركوب في سيارة مكشوفة سرعتها 100 كم وتكون معرضة للظروف الخارجية (حجر طائش طار من تحت عجلات سيارة سابقة أو أن يفقد حاج توازنه ويسقط على إسفلت تجوبه مئات السيارات وبسرعة عالية).

المنهج العلمي يمشي على ترتيب معين من خمس خطوات:
1. تحديد سؤال أو مشكلة أو قضية
مثال على ذلك، لماذا يعزف شباب اليوم عن الحضور للمساجد وأماكن الذكر.
2. توضيح القضية وصياغتها بلغة علمية
تعريف الهدف من التطرق لهذه القضية مع ذكر المطلوب تحقيقه.
3. تحديد المعلومات المطلوبة وكيفية الحصول عليها
من أين نحصل على هذه المعلومات؟ من الشباب أنفسهم؟ من ذويهم؟ من مدارسهم؟ من أقرانهم؟ …الخ
4. تنظيم المعلومات وترتيبها وتحليلها
أحيانا يتقصى الباحث أكثر مما يجب ويحصل على معلومات لا فائدة منها للدراسة، وعليه وجب تقليصها. هل هناك بدائل يمكن دراستها؟
5. تفسير النتائج وتأويلها
هذه الخطوة تكون من أصعبها لأننا بحاجة للوصول إلى نتيجة من خلال المعطيات. هل البدائل المتاحة تساهم في تقليص المشكلة؟

علينا أن نضع في الحسبان أن الفرضيات قد تأتي في أي وقت من الدراسة، ولا يمكن تجاهلها. مثلا، اتضح لنا أن الخلل في تعامل إمام المسجد مع المصلين، وعليه لابد من وضع كل مستجد لحساب النتيجة النهائية.

نريد التأكيد على سمتين أساسيتين للبحث العلمي: حرية الفكر والإجراءات العامة. المنهج العلمي ليس ملكا لمجموعة خاصة من الناس أو بطانة تلعب به كيفما يحلو لها لتأتي بنتائج تصب في صالحها. هذا النسق أقرب للمهزلة من أن يكون مقترنا بالنهج العلمي. مرة أخرى، حرية الفكر والشياع أمور شبه مستحيلة لدى أهل الأديان والنحل (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). الكل يدعي الحق المطلق. وهذا يمنع حرية التفكير. بل أي فكر آخر مرفوض رفضا باتا مع معاقبة من يحاول فقط طرح مسألة خارج الفكر السائد لدى الخاصة. أما الشياع والاحتواء (خصوصا للآخر) فقلما تجدها بين أهل الأديان. مثلا، يحق لصاحب الديانة س أن يغزو أصحاب ديانة ص لقتل رجالهم وسلبهم واستعباد غلمانهم واستحلال نسائهم.

باختصار، ينبع جوهر كل الأبحاث من الفضول – الرغبة في اكتشاف كيف ولماذا تحدث الأشياء، بما في ذلك سبب قيام الأشخاص بالأشياء التي يقومون بها، وكذلك ما إذا كانت طرق معينة لفعل الأشياء تعمل بشكل أفضل من غيرها أم لا. يعزز التصور الخاطئ للعلم فكرة وجود إجابات ثابتة ومناسبة لكل حالة ولجميع الظروف. يساهم هذا في وجود ميل مشترك للالتزام الصارم بالحلول المبسطة لمشاكل معقدة للغاية (مثلا، عدم السماح للمرأة -أو تعقيد طلبها لدرجة اليأس- بطلب الطلاق من زوجها مهما كانت الظروف).

في حين أن اليقين أمر جذاب ومريح، إلا أنه يتعارض مع فرضية أساسية للعلم: يجب النظر إلى جميع الاستنتاجات على أنها مؤقتة وقابلة للتغيير، إن كانت الأفكار الحديثة والأدلة الجديدة تتطلب المراجعة. ولكن هذا لا يعني أن نلغي كل شيء من خارج المنهج العلمي لأن في ذلك إجحاف وغرور. ليعطَ كل شيء فرصته وليثبت نفسه بنفسه.

نكتفي بهذا القدر، وسنواصل مشوارنا معكم في مقالات تالية.

محمد حسين آل هويدي

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×