المنهج العلمي.. كيف نتعلم..؟
محمد حسين آل هويدي
بسم الله الرحمن الرحيم: … «30» وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ «31» قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «32» … صدق الله العلي العظيم – البقرة.
خلق الله سبحانه الإنسان بطريقة مختلفة عن باقي المخلوقات وألهمه كيف يتعلم ويتطور، بالرغم من أن حواس الإنسان أقلها دقة عن باقي الحيوانات. هل فتح الله سبحانه فصلا ونزل يعلم آدم؟ كلا؛ طبعا، وتعالى الله وجلّ. المعنى مجازٍ أكثر مما يكون حرفيا. الله جعل قابلية التعلم في هذا الإنسان. ولكن كيف يتعلم الإنسان؟ كيف يحصل على المعلومات، ومن أي مصدر؟ من بيت؟ من شارع؟ من مدرسة؟ من سوق؟ من عمل؟ من خبراء؟ من كتاب؟ من زملاء؟ من أصدقاء؟ من ندماء؟ من تلفزيون؟ من خطيب؟ كل هذه طرق متاحة للإنسان منذ أن يفتح عينيه على الدنيا. ولكن، هل هذه الوسائل فعالة وجديرة بالثقة؟ الجواب؛ كلا. قد تقرأ كتابا يضر ولا ينفع. قد يخطئ الخبير. قد تكون انطباعاتنا خلاف الواقع.
ومن هنا، بدا لزاما على البشرية أن تتبع سبلَ بحثٍ علمية وحديثة وموثوقة وموثّقة وموضوعية وبعيدة عن الانحياز والميول. هناك طرق متعارف عليها للحصول على المعلومات، وهي:
1. الحواس
2. الاجماع
3. رأي الخبراء
4. المنطق
5. المنهج العلمي
خبراتنا وماضينا يتمحوران حول الزراعة وصيد الأسماك. كلنا يشعر بالربيع فقط من رائحة الطلع التي تملأ الأجواء (شم)؛ من النسيم الذي ينعش الجلد (لمس)؛ من الخضرة التي تملأ المكان (بصر)؛ من صوت العصافير الجميل (سمع)؛ من مرارة الحبمبوه وطعم الخلال (ذوق). في السابق كنا نشم هذا العبق ونحن في البيت. الآن، يجب علينا الذهاب إلى البساتين لتسترجع حنين الماضي الجميل (نستالجا – nostalgia). حنيننا للماضي يقترن أيضا بنوع من الأسى لأن كلا منا يحمل مقلاعه (قوص، فلاتية، نبيطة، …الخ) مالئا جيوبه بالحصى لصيد تلك العصافير الجميلة؛ يا للأسف، حيث هرب أو انقرض بعضها. كنا نحمل فخاخنا بأحجامها المتباينة مع مؤنة من الزندات (الطعم الذي يستخدم لجذب الطير) المختلفة؛ كل على حسب نوع وحجم الطير. كان البعض منا يتعرف على الطير من خلال طيرانه أو كيف يُهَلِّب على الفخ. كنا نستخدم حواسنا كثيرا لقضاء حوائجنا، حتى للعب والحَبَال. ولكن هذه الحواس ليست كافية للوصول للحل النهائي. لا نتأكد من نوع الطير إلا حينما يقع في الفخ وليس من خلال الاشتباه في طريقة طيرانه أو نوعية نزوله على الفخ. تخيل فلاحا يزرع أسماكا بحاجة إلى درجة حرارة ثابتة من الماء كي تتكاثر ولا تموت. لا يستطيع هذا الفلاح أن يقيس درجة حرارة الماء فقط من خلال استخدام حاسة اللمس. هو بحاجة لمعايير أدق وعليه استخدام آلات مساعدة، مثل الترمومتر. بحواسنا فقط، لن نستطيع أن نتعرف على الأشعة الكونية التي من المستحيل أن نراها. الحواس ضرورية للحياة ومهمة للبقاء، ولكنها ليست السبيل الأمثل للوصول لدقائق الأمور.
1: كان الحالوش (العنجوش) الزندة المفضلة لدى الطيور المهاجرة. لدى نبحث عنه في شروب الخضروات ومرامي النخيل (السيبة).
في مرة وعلى خط طريق الخليج، كان هناك ساحلا (سِيف) نصيد عند طرفه الأسماك. لم يكن حينها حي غرناطة (النمر الجنوبي) موجودا. وكانت فيلا المرحوم الحاج إبراهيم المطرود تحت الإنشاء. ذهبنا أنا وابن عمي سمير وجارنا عبد النبي المشامع من حارتنا إلى ذلك الساحل مشيا على الأقدام (ساعة على أقل تقدير). حينها، اصطدنا سمكة كبيرة لم نشأ نسحبها من الماء فصرخنا طالبين النجدة فهب الكاتب المبدع والناقد المخضرم محمد العباس لنجدتنا. وعندما أخرجناها من البحر، وفيها على أقل تقدير عشرون كغم، قال لنا العباس بأن هذه سمكة مكروهة ولا تؤكل. أجمعنا نحن الثلاثة ضد فتوى العباس وذلك لأن السمكة شبيهة بالوحرة. حملنا صيدنا الثقيل ونحن صغارا لمسافة طويلة وبعد ضنى وتعب شديدين اتضحت صحة فتوى العباس حيث تبين أن السمكة عبارة عن قرش على شكل وحرة (يسمى محليا جرجور وحري). أهالي سيهات لا يأكلون هذا النوع من السمك كونه غضروفي وخال من الفلس. هذا يبين لنا أن الإجماع قد لا يصيب في أحيان (حتى ولو قليلة) وإن أصاب في أحيان كثيرة. مثلا، قد نجمع كلنا على أن اليوم حر ورطوبة؛ وهذا صحيح نسبيا، ولكن يبقى هذا الإجماع غير موضوعي لأنه لا يحتوي على أرقام تدل على درجة الحرارة ومقدار الرطوبة. وقد يأتي لنا شخص يعيش في الغابات الاستوائية (شديدة حرارة ورطوبة) ليقل إننا واهمون لأن الجو بالنسبة له معتدل.
“اسأل مجرب ولا تسأل طبيب” مثل دارج في طلب رأي أصحاب الخبرة في أمر ما. قد يصيب رأي الخبير في أحيانٍ كثيرة، ولكنه معرض للخطأ كونه بشر. أصحاب العلوم التجريبية لا يعترفون بشيء اسمه رأي لأن الأمر ذوقي وغير موضوعي. ولذلك، ينصدمون حينما يسمعون أن أهل أسرة واحدة يعيّدون في ثلاثة أيام مختلفة بسبب اختلاف آراء خبراء، وكأن للأرض ثلاثة لواحق (كل منهم لخبير) بدلا من قمر يتيم. كثيرون يقبلون بهذا الشيء، وإن لم يكن منصفا للأسرة أو منطقيا لأصحاب العلوم المحكمة. لمن لا يعلم، ألبرت آينشتاين حصل على جائزة نوبل في فيزياء الكم وليس في الجاذبية أو بسبب النسبية. آينشتاين عالم ضخم وخبير له ثقله في الفيزياء بشقيها. آينشتاين اعترض على رأي نيلز بور في نظام الاحتمالات للجسميات تحت الذرية، حتى أصبحت مقولته “الخالق لا يلعب بالنرد” مشهورة. وَجَدَ بور على آينشتاين بسبب رفضه القطعي لاستخدام نظام الاحتمالات. يبقى آينشتاين آينشتاين، ولكن رأيه لم يكن صائبا، وأصحاب الفيزياء الكمية ذهبوا مع ما توصل إليه نيلز بور. هذا أكبر دليل على أن رأي الخبير يبقى مجردَ رأي؛ قد يصيب، وقد يخيب إن لم يكن مدعوما رياضياتيا وتجريبيا.
المنطق آلة ابتكرها (ربما اكتشفها) أرسطو للتدليل على جملة ما، ومن ثم تتحول إلى مسلّمة. لننظر لهذه الجملة المشهورة للاستدلال:
• كل البشر يموتون. (افتراض أساسي)
• محمد بشر. (مبنى)
• لذلك، محمد يموت. (استدلال)
هذه جملة صحيحة ولا يمكننا أن نعترض عليها إلا في حال أن نجد بشرا لا يموت. هناك مشاكل ومغالطات مع المنطق. مثلا:
• زيد زوج نبيلة.
• زيد أبو أحمد.
• نبيلة أم حمد.
• لذلك، أحمد أخو حمد.
هذه الجملة ليست دقيقة وإن كانت تبدو منطقية في الوهلة الأولى. ريما زيد تزوج عفاف من قبل وأنجب منها أحمد. ونبيلة تزوجت عمرا من قبل وأنجبت منه حمد. وعليه، أحمد ليس أخا لحمد. هناك مغالطات منطقية كثيرة لسنا بصددها. ولكن وإن كان المنطق أداة فلسفية رائعة للتعلم والتحقق إلا أنها ليست كافية ولا تسد كل الفراغات.
نكتفي بهذا القدر، وسنواصل مشوارنا معكم في مقالات تالية.