عيون صفوى الأثرية.. رافدٌ كبير لنهر “مُحَلّم” التاريخي إرث وطني سعودي يستحق التسجيل ضمن الآثار السعودية

ما زالت كثير من عيون محافظة القطيف الأثرية خارج سجلاّت الآثار السعودية، على الرغم من استحقاقها التسجيل، لكونها آثاراً تاريخية حقيقية من جهة، ولكونها إرثاً وطنياً سعودياً من جهة أخرى. ويقدّم هذا البحث الذي أعده الباحث ياسر آل خميس، مناشدة مفتوحة لسمو وزير الثقافة؛ من إجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من عيون مدينة صفوى التاريخية: داروش، الجنوبية، الوسطية.

ياسر آل خميس

ياسر آل خميس

خلف هذا الباب الموصد منذ عشرات السنين، وخلف هذه الجدران المتصدعة، حكاية طبيعة مندثرة، وتضاريس متغيرة، يرويها الآباء لأولادهم، تتحدث عن عيون صفوى الأثرية، وماضي تراثها العمراني العريق. ترسم صورة البساتين المقدر عدد نخيلها بخمسين ألف نخلة[1] كانت شامخة على امتداد الشريط الساحلي الشرقي لمدينة صفوى. وتشير إلى ألعاب شعبية مائية لا يتذكرها إلا القلة من الآباء. ويهب نسيم الذكريات السعيدة عندما يمر بها بعض أهالي محافظة القطيف، فلطالما رافقوا أبناءهم وأصدقاءهم العرسان للاستحمام فيها في نهارات أيام الأعراس. ولعل البعض أيضاً يذرف الدمع على شاب قضى نحبه فيها غرقاً. مواضيع متعددة، حاولنا أن نسلط الضوء عليها في هذا التقرير.

عيون القطيف ونهر محلم العظيم

الطبيعة المائية التي انتهت، من أكبر الشهادات على تغير تضاريس المنطقة، فمن يتصور أن نهراً عظيماً كان يجري في المنطقة؟ وإذا لم تكن هناك جبال قريبة تذوب ثلوج قممها فتجري أنهاراً فمن أين أتى ماء نهر محلم..؟

المؤرخ محمد سعيد المسلم

المرحوم محمد سعيد المسلم يقول “ويقال أن تلك المسافة من الصحاري التي تفصل الأحساء عن القطيف كانت كلها آهلة بالسكان وبالقرى والواحات، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك فيقولون إن الماشية السائبة كانت تنتقل من مدينة القطيف بين القرى والواحات حتى تصل إلى مدينة الأحساء.

وهذا القول إذا حملناه على المبالغة فمما لا شك فيه أنه يدل اجمالاً على أن هذه المساحة كانت آهلة بالسكان والمزروعات في الزمن الغابر وأن جفاف الينابيع التي تسقي سيحاً بالإضافة إلى الأسباب التي ذكرناها آنفاً يرجع إليها السبب في تسرب الخراب والدمار إلى هذه المناطق.

علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر

ومما ينهض دليلاً على صحة هذا القول أن رجال شركة الزيت العربية الأمريكية عثروا أخيرا على صهاريج متصلة بعضها ببعض بأنفاق عليها فتحات في مواضع متعددة لاستقاء الماء منها عثروا عليها في القطيف والأحساء والفلج وأواسط نجد وأماكن أخرى تعد اليوم من المناطق الصحراوية.

كما وجدت على مقربة منها آثار قرى كانت عامرة ومزارع واسعة مما يدل على أنها كانت غير ما كانت عليه الآن، وأنها كانت آهلة بالسكان ” [2].

ومنه يتبين أن المنطقة كانت مرتبطة بشبكة ري كبيرة تصل بين محافظتي القطيف والأحساء اسمها (مُحَلّم).

تسمية مُحَلّم

اسم النهر منسوب إلى رجل اسمه مُحَلَم بن عبد الله، وزوجته هجر بنت المكفكف، وقيل إن هجراً تلك هي العلة في تسمية مدينة هجر الدارسة[3]. ومع الأسف الشديد فإن التاريخ لم يسعفنا بغير اسميهما، ولا نعلم عن أمرهما أكثر من ذلك. وإن مجهولية انتمائهما القبلي ومكانتهما الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من دواعي الريبة المانعة عن التسليم بصحة شخصيتيهماولا نعلم لاحتمال وضعهما من قبل القصاصين، وتسللتا من باب التسامح إلى كتب المؤرخين.

ولكن معاجم اللغة العربية واسعة، وبها نكتشف أصل التسمية. فيُقال: تحلمت القربة أي امتلأت ماءً[4]. وعليه فإن محلماً يعني الممتلئ بالماء. ومن المؤكد أنه عبارة عن شبكة قنوات مائية ظاهرة وباطنة، رفدتها عيون المنطقة، فشقت المجرى من الكويت شمالاً وحتى قطر جنوباً. وقد جاء رسمه في الكثير من الخرائط الأوروبية القديمة.

أرض البحرين

وجاء في كتاب “صفة جزيرة العرب” ما يلي “إذا أجملنا أرض البحرين وهي أرض المشقر، فهي هجر مدينتها العظمى، والعقير والقطيف، والأحساء ومحلم نهرهم “[5].

أي أن طول هذا النهر يبلغ مئات الكيلومترات، وهو متصل بين محافظتي القطيف والأحساء، وقد ورد رسمه في الكثير من الخرائط الأوروبية القديمة، وأكتفي بإدراج صور ثلاثة خرائط في توضيح رسم ذلك النهر، أوردها الأستاذ خالد العنقري في كتابه (الجزيرة العربية في الخرائط الأوروبية القديمة).

الخارطة (1): خارطة أوليفا جون (ازدهر نشاطه : 1570 – 1614م) وتظهر نهراً يخرج من اليمامة وينتهي إلى بحر الخليج العربي.

الخارطة (3): خارطة الهولندي مول هيرمان (1688 – 1745م) وتطلق على ذلك النهر اسم سيهات.

عين داروش بين مسجدين.. سابقاً

هل داروش هي عين محلم؟

تحدث البلدانيون عن جونان، وهي تصحيف اسم موضع جاوان الأثري الواقع في شمال مدينة صفوى. قال ياقوت “الجونان قرية من نواحي البحرين قرب عين محلم دونها الكثيب الأحمر”[6]. وعلق الشيخ حمد الجاسر في المعجم على كلامه قائلاً ” لا تعرف هذه القرية الآن، ونهر محلِّمٍ على ما يظهر هو عين أمَّ سَبْعَة إذ هي أقوى أنهار الأحساء قبل أن تضعف قوة مياهها كثبان الرمال التي كانت تهيل عليها الرمال”[7].

وقال الأستاذ محمد سعيد المسلم “وعين محلم هي العين التي تسمى الآن داروش التي يتفرع منها سبعة أنهر، وهي شهيرة بقوتها وغزارة ينابيعها “[8].

والحق في جانب الأستاذ المسلم، ذلك أن الكثيب الأحمر موضع معروف في ناحية الجنوب من موضع جاوان الأثري المعروف في شمال مدينة صفوى، وقد تم تحديد الجبيل والذراع الأحمرين في خارطة قديمة لجغرافيا منطقة محافظة القطيف رسمتها شركة أرامكو في العام 1379هـ الموافق 1959م.

وعليه إن بلغك عن كون محلمٍ في القطيف أو الأحساء فلا تضارب. وكذلك إن بلغك أنه نهر أو عين فلا تضارب أيضاً، ذلك أن العيون هي روافد ذلك النهر العظيم، وربما نسب الكل إلى أقوى أجزائه. ولا تعجب من قول القائل بأن نهر عين الصفا (داروش) يسقي قرى هجر كلها[9] بعدما تبين لك اتصال الماء قديماً بين محافظتي القطيف والأحساء بواسطة هذا النهر العظيم.

ولما لم ينتبه البعض لوجود هذا النهر العظيم، قالوا بأن نهر الصفا من أنهار الأحساء، ونقل الشيخ حمد الجاسر عن (تاريخ الأحساء) قوله “لا يعرف في الأحساء نهر بهذا الإسم ولا حصن أيضاً[10].

عين داروش.. الآن

تعددت الأسماء والماء واحد

وكانت داروش تسمى بعين الصفا في العصور القديمة. وصفها الشيخ محمد مكي الجزيني العاملي في (لؤلؤة جزين) سنة 1160هـ بالعين العجيبة، وقال بأنه ورد ذكرها في القاموس. وفي القاموس المحيط ذكر الصفا (الذي أثبته العثمانيون لناحية صفوى في قانون نامه سنة 959هـ) ولم يذكر داروش.

وقال معاصره الشاعر بطرس كرامة الحمصي:

وانظر لجارية تبدت في الصفا

ذات القنا الخطي بنت العجب

 ولهذه العين ذكر في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام، قال لبيد:

سحق يمتعها الصفا وسرية

عـــم نواعـــــم بينهم كرومُ

وسرية من قرى صفوى المشهورة، وقد ورد ذكرها في قانون نامة بهذا الاسم ويريدون بها حارة الشرية الواقعة في شرق داروش[11] وإنما يقع الإبدال حرف الشين بالسين في لهجة الأهالي كما تقدم فيقولون شرية وسرية، كقولهم سويجة وشويكة. وربما أُحدِثَ اسم داروش في زمان الاحتلال البرتغالي للمنطقة (٩٢٧-٩٥٨هـ) ثم غلب على الاسم القديم، ذلك أن كلمة Da rosha  في اللغة البرتغالية تعني الصخرة.

وكانت هذه العين معروفة بصخورها، ومنها اكتسبت مسماها القديم (الصفا). ذكرها لوريمر في دليل الخليج قائلاً : ” على بعد ربع ميل جنوب قرية صفوى. داروش أجود ينبوع في كل واحة القطيف ويروي مع عتيقة كل أراضي قرية صفوى”[12].  وقال المرحوم محمد سعيد المسلم في ساحل الذهب الأسود : ” وهي شهيرة بقوتها وغزارة ينابيعها”[13].  وذكرها المرحوم الشيخ الجاسر في المعجم الجغرافي للمنطقة الشرقية باسم (داريوش) ووصفها بالنهر العظيم[14].

أنهر داروش السبعة

ولهذه العين سبعة أنهر[15]:

  • قميح: يتجه إلى الشمال من صفوى، حيث نخيل الزعافرينيات، والصبيبيحات، ومن بعدها حارة بارزان.
  • العوسيي: يتجه إلى الشرق، وينتهي في البحر.
  • مضر: يتجه ناحية الجنوب.
  • سليسل: يتجه ناحية الشرق، ويسقي نخيل البدعة، والبسيتن، وغيرها.
  • نهر يسير باتجاه مسجد العباس g.
  • نهر يسير باتجاه شرق مسجد العين (الغرافة الشرقية).
  • نهر يتجه نحو السليميات من نواحي الشرية.

ونهر قميح كان أكبر الأنهار الداروشية وأكثرها نفعاً للأهالي، ولعله نهر قمحة الذي ذكره الزبيدي في تاج العروس قائلاً : “والقمحة نهر أول هجر”[16]. يريد هجراً الإقليم لا المدينة الدارسة.

عين الجنوبية (العتيقة)

وقد عرفت قديماً باسم عين العتيقة، قال الشيخ الجاسر: “ورد هذا الاسم باعتباره من عيون القطيف في كتاب (دليل الخليج) وفيه (العتيقة): على بعد ميل واحد جنوب قرية صفوا. تعتمد قرية صفوا في الري عليها وعلى عين داروش “[17]. وإنما سميت بالجنوبية لوقوعها في جنوب صفوى وهي تبتعد عن عين داروش بنحو كيلو متر واحد. ومساحة هذه العين أكبر من مساحة عين داروش إلا أنها لا توازيها في القوة، حيث تقتصر هذه العين في السقي على النخيل والمزارع في الجهة الجنوبية والجهة الشرقية وإلى حدود معينة.

وقد عمل علي بن فارس في جانبها بناءً، أضاف عليه عبد الله القصيبي ونظمه فأصبح فيما بعد حماماً للسباحة وبقي على حاله[18]. وماء هذه العين دافئ شتاءً بارد صيفاً، ولما تأسس أول فريق للسباحة في المملكة بنادي الصفا سنة 1391هـ، على يد معلم التربية البدنية بمدرسة صفوى الثانوية الأستاذ كمال محروس بيومي، انضم له ما يزيد على المائة متدرب، وأخذوا يتلقون تدريبهم في هذه العين، وأقيمت فيها أول مسابقة للسباحة للمسافات الطويلة في مهرجان الألعاب المائية للإدارة العامة للتعليم بالمنطقة الشرقية عام 1392هـ. ولما تعرضت مياه العيون للبوار حاول النادي إصلاحها، فتم له ذلك، ونظم العديد من المهرجانات والمسابقات المائية، ولكن منسوب مياهها أخذ في التراجع.

وبرز من السباحين المهرة خلال تلك الفترة كل من: علوي بن محمد  آل إبراهيم، وعلي بن عباس الزاير، وهاشم بن مرتضى السادة، وحسن بن حميد الصادق وعلوي مكي آل إبراهيم، وأنور بن علي صالح آل داوود وعلوي بن هاشم الساده، وفاخر بن حسن الساده، ومالك بن شاكر البشري، ومحمد  بن حسين آل عجاج[19]، وسعيد بن سلمان آل قريش، وغيرهم.

 

العين الجنوبية.. كيف كانت.. وكيف صارت؟

عين الوسطية

 تقع بين عين داروش والعين الجنوبية، وتعرف قديماً باسم الخسيف لأن تنورها عميق، بل هو أعمق نبع في صفوى. وهي عين جميلة جداً، وقوية، ومن العجيب أن لوريمر أهمل ذكرها، فأهملها الشيخ الجاسر. وذكر الشيخ صالح آل إبراهيم بأنه كان بها حمام عليه سقف يقال بأن بناءه قد تم على يد عبد الله القصيبي[20].

ما تزال العين محتفظة بحوضها الذي بنته الدولة في القرن الميلادي الماضي. وما يزال ينبوعها سليماً لم يمس.

——-

[1] المعجم الجغرافي للمنطقة الشرقية، الشيخ حمد الجاسر، القسم الثالث، ص : 977.

[2] ساحل الذهب الأسود، محمد سعيد المسلم، الطبعة الثانية، ص : 23-24.

[3] المعجم الجغرافي، القسم الرابع، ص : 1830.

[4] لسان العرب للعلامة ابن منظور، دار الحديث، القاهرة، 1423هـ، ج : 2، ص : 575.

[5]   المعجم الجغرافي، القسم الرابع، ص : 1626-1627.

[6]  معجم البلدان، ج:2، ص : 96.

[7]  المعجم الجغرافي، القسم الأول، ص : 445.

[8]  ساحل الذهب الأسود، ص : 55 .

[9] المعجم الجغرافي، القسم الثالث، ص : 971.

[10] المصدر السابق، ص : 972.

[11] قانون نامه لواء القطيف لعام 959هـ، الدكتور فيصل الكندري، كلية الآداب، جامعة الكويت، المجلة التاريخية العربية للدراسات العثمانية، العدد الخامس عشر والسادس عشر. اكتوبر – نوفمبر 1997م، ص : 354.

[12] دليل الخليج، القسم الجغرافي، ج ج لوريمر، ج : 5، ص : 1887.

[13]  ساحل الذهب الأسود، ص : 55 .

[14] المعجم الجغرافي، القسم الثالث، ص : 976.

[15] صفوى تاريخ ورجال، الشيخ صالح بن محمد آل ابراهيم، ص : 28-29.

[16] تاج العروس من جواهر القاموس، محب الدين أبي فيض السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، طبعة 1414هـ، دار الفكر، بيروت، ج : 4، ص : 178.

[17] المعجم الجغرافي، القسم الثالث، ص : 1229.

[18] صفوى تاريخ ورجال، ص : 29.

[19] نادي الصفا المسيرة والإنجازات، ص : 249.

[20] صفوى تاريخ ورجال، ص : 29.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×