الحج: الرحيل الأعظم

نازك الخنيزي

الحج…
ليس موعدًا يُحدد،
ولا طريقًا تُرسم على خارطة.
إنه نداء قديم،
ينبع من نقطة نائمة في القلب،
لا يسمعه إلا من أرهقته الغربة،
ولا يجيبه إلا قلبٌ آن له أن يرجع.

الحج ليس سفرًا إلى الكعبة،
بل إلى من أمر ببنائها،
ليس إلى البيت وحده،
بل إلى ربّ البيت،
إلى النور الذي فُطرنا عليه،
وغبنا عنه طويلًا،
حتى أضعناه في زحام الغفلة.

في الحج،
نخلع أسماءنا، ألقابنا، وأقنعتنا،
كما تتعرى الأشجار أمام ريح الخريف،
ونأتي بوجوهنا الحقيقية،
بقلوبٍ خفيفةٍ إلا من الرجاء.

نأتي كما جئنا أول مرة:
حفاة إلا من الندم,
عرى إلا من الرجاء.

في الطواف,
ندور كما تدور الأرواح الحائرة حول سرها الأول.
ندور بحثًا عن مركزٍ لا يُرى,
بل يُحس باليقين.

ندور,
وفي كل شوطٍ نسقط شيئًا:
وهْم القوة,
شهوة البقاء,
خوف النهاية.

حتى تفقد الذاكرة قدرتها على العد,
ولا يبقى من الطواف إلا الذوبان في دائرة لا بدء لها ولا انتهاء.

وفي السعي,
نركض كما ركضت هاجر,
لا طلبًا لماء الأرض,
بل طلبًا لنبع الرحمة,
لليقين الذي لا تراه العيون,
لكنه يسكن في أعمق العطش.

كل خطوة بين الصفا والمروة
صلاة صامتة:
أن السعي بحد ذاته نجاة,
وأن العطش الحقيقي لا يرويه إلا الله.

في عرفات,
نقف.
لا نطلب رفعة,
ولا نُباهي بطول الظلال,
بل نغيب عن كل ظل,
ونترك للروح أن تقف وحدها:
عاريةً من كل شيء,
إلا الخوف,
إلا الرجاء.

هناك,
تتلاشى اللغة,
ويصير الصمت هو الصلاة,
والبكاء هو التسبيح.

وعند الجمرات,
لا نرمي الحصى,
بل نرمي سنواتٍ من الخوف,
أعوامًا من الكبرياء,
وأوزانًا من التردد.

كل حجر يسقط,
كأنه قطعة قديمة من النفس تنفصل,
تسقط لتفسح للروح أن تخفّ,
وتعود كما كانت.

وفي الذبح,
لا يُذبح الكبش وحده,
بل تُذبح تلك الـ”أنا” التي تضخمت,
حتى كادت تحجب القلب عن الله.

تضع قلبك على النصل,
وتهمس له:
اذهب خفيفًا كما خُلقت,
وعد نقيًا كما كنت.

وفي النهاية,
حين ينطوي الطريق,
وتنطفئ الخطى في الرمل,
لا تعود كما ذهبت.

تعود خفيفًا كنسمة,
بلا ثقل,
بلا خوف,
بلا قيد,
بلا اسمٍ إلا اسمك الأول: عبدٌ بين يدي ربه.

تعود وقلبك لا يريد إلا الرضا,
وروحك لا تبتغي إلا السلام,
ولسانك لا يردد إلا:

لبيك…
لبيك يا وحدتي الكبرى,
لبيك يا سلامي الأخير.

الحج…
ليس سفرًا إلى مكان,
بل رجوعٌ إلى الأصل,
إلى اللحظة التي لم يبق فيها شيء,
إلا الله.

( كل الطرق تؤدي إلى الحج…
لكن لا أحد يعود منه كما ذهب. )

( وكل من ذاق عرف الطريق…
وكل من عرف الطريق,
لم يضلّه أبدًا. )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com