في مساراتنا.. لا خصومات لا صراخ.. بل بصيرة

عبدالله أبو رشيد

استحضار الذاكرة العاطفية ليس محض حنين، ولا مرآة نرى فيها وجوه من مضوا فحسب… إنه طريقٌ ذو حدّين، كلاهما مُرّ، حتى وإن لبس أحدهما ثوب السعادة.

فإن استدعيت ذكرى فرح، أتتك خلفها سلاسل من الحنين والخذلان. وإن أحييت وجعًا، فقد تعود إليك نارٌ حسبتَها انطفأت، لكنها كانت فقط تترقب لحظة ضعفٍ لتشتعل.

الذاكرة، حين تُستحضَر دون وعي، تهدم أكثر مما تبني. ولا يفرغها الإنسان إلا حين يعيد تعريف ذاته، حين يدرك أن الماضي مضى، وأن الحاضر هو رأس المال، وأن الغد لا يُنتظر… بل يُصنع.

أنا ابن اليوم، وسأحيا لأجل الغد. غدي هو أملي، وهو سعيي، وهو عملي، أراه أوضح، وأخوضه من زاوية أوسع، فأنا لم أُخلق لأحمل رماد الأمس، بل لأوقد نور الغد.

سألني أحد الأحبة: “هل لك مخاصمات؟” فقلت بثقة: “لا.” لِمَ الخصام؟ نحن أبناء زمنٍ مضى فيه التزاعل كموضة قديمة. كنا حينها مسلوبي الإرادة، تركنا العاطفة تتغلب على العقل، فخاصمنا، وهجرنا، و”تزاعلنا” من أجل مَن لا يستحق.

لكننا كبرنا… وتسعت المدارك… فعلمنا أن نأتلف مع المختلف، وأن الاختلاف لا يعني القطيعة، بل يعني أن للحياة زوايا أخرى للرؤية.

وحتى “تزاعلني لو تزاعل واحد” باتت عند البعض شعارًا اجتماعيًا، ولكنها أيضًا تطورت… أصبحت تُمارس بلُبسٍ ناعم، تحت مسميات جديدة، لكنها تعكس ثقافة القطيع.

“تَيْس تبع” كما يقول المثل، مثالٌ ليس عبثًا، بل خلاصة تجربة إنسانية في ميدان العلاقات. وما الأمثال إلا شفرات الشعوب… تُسجّل بحروف ساخرة، ما لا يُقال بجدٍّ صريح.

يا عزيزي… خياراتك هي مساراتك. وأنت من يختار الطريق. لا أحد يجبرك، لا العاطفة، ولا العادة، ولا ضغط الجماعة.

تحييد العاطفة في لحظات التجاذب الاجتماعي، ليس جمودًا، بل نُضج. وليس خيانةً، بل حكمة.

نعم، قد يكون لي موقف… لكن الإعلان لأصحاب الشأن، لا للعوام. فالعقلاء لا يستقوون على بعضهم، لأنهم يعرفون أن كل الأطراف خاسرة في الخصومة.
وأن من يعمل يُخطئ، وأن من لا يعمل فقط… لا يخطئ.

لكن المؤلم… أن من ينتظر زلّة ليُسقط بها إنسانًا، هو في حقيقته مثقلٌ بعقده،
تائهٌ في نقصه، يركب موجات لا يعرف إلى أين تقوده، يُسقط غيره، لعله يُرضي شعورًا بالهزيمة بداخله.

الشهادات… أوراق. المناصب… اختبارات. المكانة الاجتماعية؟ يصنعها الناس…
لا يُنتزع لها حق من أحد، ولا تُبنى فوق أنقاض الآخرين.

وفي النهاية… “العِلم في الرأس، لا في القرطاس.”، القرطاس… هو أن تكون “مع أو ضد” في كل اختلاف، هو أن تسجل موقفًا فقط لأن الكل يسجّل. لكن الرأس… هناك تُختمر الحكمة، وتُصفّى الرؤية.

سيأتي زمن، يُدوَّن فيه كل ما عِشنا، بعضنا سيكون ورقة في بحثٍ، أو سطرًا في دراسة اجتماعية يقرؤها أبناؤنا وأحفادنا. فأي تركة سنترك؟ أي إرث سنبصمه في الذاكرة الجمعية؟

إن أردنا الخير، فليكن مسارنا لا خصومات… ولا استقطابات. فهذا هو المسار الوحيد الذي يُورث سلامًا.

ولا خير في علمٍ بلا ورع، ولا في أبناءٍ بلا نُجباء. فلنكن نحن النجباء، فلنتعلم لا لنتفاخر… بل لنبني، فلنختلف لا لنخاصم… بل لنتكامل، فلنحيا لا ردًّا على ماضٍ، بل إعدادًا لغدٍ يستحقنا.

تعليق واحد

  1. أحسنت أبا علي. نعم لا للخصام! شكراً لشعورك النبيل و لكلماتك الطيبة، و أسأل الله أن يمد في عمرك بالصحة و العافية، و الخير و السعادة 🤲

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×