أرواح على الحواف

بقلم: نازك الخنيزي
قضايا التهميش والهشاشة ليست مجرد أعراض طارئة على الجسد الاجتماعي، بل هي اختبارات قاسية لضمير المجتمعات، ومرآة تُظهر بوضوح مدى إخفاقنا في احتضان الإنسان كإنسان. ففي كل مدينة، وفي كل منعطفٍ من التاريخ، ثمّة من يُدفعون إلى الهوامش، ليس لأنهم اختاروا الظلّ، بل لأن الضوء قد حُجب عنهم عمدًا.
الهشاشة لا تنشأ من العدم، بل تتغذّى على سياساتٍ تُكرّس الفوارق، واقتصاداتٍ تُدير ظهرها للعدالة، وثقافاتٍ استهلاكية تُقايض الإنسان بمنفعته. وفي طيّات هذا المشهد، تتجلى وجوه متعدّدة للاستبعاد، لا بوصفها مآسي فردية، بل بوصفها بنيات اجتماعية تُنتج التهميش وتعيد إنتاجه بلا انقطاع.
من هذه الوجوه، تتبدى عمالة الأطفال كأحد أكثر الملامح وجعًا. حين يحمل طفلٌ على كتفيه أثقالًا لا تليق إلا بالكبار، نكون قد خسرنا لحظةً نادرة من لحظات البراءة الإنسانية.
فعمالة الصغار ليست فقط خرقًا لقوانين، بل جريمة ترتكبها الهشاشة الاقتصادية بتواطؤٍ مع الصمت الاجتماعي. يُنتزع الأطفال من دفء المدرسة ومن حقّهم في الحلم، ليُزجّ بهم في سوقٍ لا يرحم، يهدر أعمارهم ويغلق الأفق أمامهم، ويزرع بذور الفقر في تراب الأجيال القادمة.
وفي جهة أخرى من المشهد، يُهمَل كبار السن تحت شعارات “الرعاية”، بينما الحقيقة أنهم يُفصلون عن نسيجهم العائلي والاجتماعي. من كانوا يحملون ذاكرة المكان وحكمته، يتحولون إلى ظلال باهتة لذاكرةٍ كانت تنير المكان. لا نخسرهم كأفراد فقط، بل نخسر بوصلةً كانت تُرشد الأبناء، وتختزل معاني الانتماء. مجتمع لا يكرّم كبارَه، هو مجتمع يقطع عن نفسه جذوره بيديه.
أما اللاجئون والمنفيون قسرًا، فهم الوجه الأكثر صمتًا للتهميش. يُنتزعون من أوطانهم كما تُقتلع الأشجار من تربتها، ليُلقَوا في أرضٍ لا تُشبههم، ولا تشبههم. في عيونهم خريطة مقلوبة، وفي جيوبهم مفتاح بيتٍ تهدّمه الحرب وينساه العالم. يُعاملون كأرقام في تقارير الإغاثة، وكأن المعاناة قابلة للإحصاء. الهشاشة هنا ليست فقدان مأوى فقط، بل فقدان هوية، وفقدان اسم، وفقدان الحق في الحنين.
⸻
حين نُعيد تعريف الإنسان
الهشاشة ليست قَدَرًا، بل نتيجة. لا تورَث بيولوجيًا، بل تُصنَع اجتماعيًا. ومواجهتها لا تحتاج إلى صدقة مؤقتة، بل إلى عدالة تُغيّر البنية.
تمكين اقتصادي يعيد للأطفال مدارسهم ولأسرهم كرامتهم. رعاية حقيقية تُبقي المسنّين في قلب العائلة لا في حوافّها. وحقّ العودة والاعتراف والاحتضان لكلّ من أُجبر على المنفى.
حين نكفّ عن عدّ المهمّش رقمًا أو عبئًا، ونستعيد رؤيته كإنسان، فقط آنذاك يمكننا أن نحلم بمجتمع لا يخلّف أحدًا وراءه.