المسرح في الحكاية سعيدة… بين الضوء والظل!

حليمة بن درويش
مضى ما يقارب الأسبوع منذ حضوري لعرض مسرحية “الحكاية سعيدة” هذه المسرحية التي دفعتني لقطع رحلتي والعودة لحضورها مع حرصي على عدم متابعة أي تغطية أو أي انطباع قد يؤثر في حماستي أو قد يدفعني إليها دفعا، لتكون الرغبة بمشاهدة التجارب الجادة لإمكانية عودة المسرح المحلي، وكيف بإمكان المسرح أن يُعيد بث “روح الفُرجة” فينا.
جاء العرض ينبض بروح الممثلين، ينفخون فيه فتتجسد ملامحه حية، لنتورط معهم كمشاهدين بأن ننساب مع المشَاهد بخفة متلاحقة، وهذا هو أكثر ما يستدعي لفت الانتباه الأداء المتمكن والقدرة على تجسيد الأدوار لبعض الشخصيات بعمق تجلى بشكله القريب من المتابع كأن يقول كل مشاهِد “قد مررنا من هنا أو كنا شاهدين على ما مروا به”.
المسرحية جاءت كعرض اجتماعي، حاول أن يحشد مجموعة كبيرة من القضايا والظواهر التي تتعرض لها العائلات رغم اختلاف ظروفها ومكانتها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وجاءت الأم كدور محوري درامي اختزل قيم أسرية لا يمكن التغافل عنها، وأبدعت الممثلة في أداء الدور بعفوية وبساطة قريبة.
وتعيد هذه القيم طرح العلاقة بين الأبناء والوالدين وبين بعضهم البعض وبين علاقتهم بالآخرين في إطار اجتماعي إنساني، وعلى الرغم من أن العرض نجح في استقطاب الجمهور وإثارة تفاعل وجداني لافت من خلال العبارات الصريحة للتوجيهات والنصائح المباشرة بالاعتماد على بنية سردية بسيطة وأداء تمثيلي متقن بلا تعقيد، إلا أن هناك فجوة في الحوارات بين الممثلين، ومحاولات لاستعراض خفة الظل التي تنتزع الضحكات من الجمهور بإفيهات مكرورة ، ونكات لم أجدها ضرورية لخدمة سياق النص الذي كُتب ليتناول كل هذه القضايا المهمة في دفعة واحدة، التي أحدثت كثرتها ارتباكا في التنقلات، وكذلك الالتباس في طريقة عرض بعض المفاهيم وتصديرها للجمهور، وعلى الرغم من حرص المنظمين على عدم وجود أطفال بين الحضور إلا أن ذلك الضابط لم يتحقق، لتظهر العبارات ذات الإيحاءات الغير مناسبة والحركات المفتعلة المبالغة كوسيلة لإضحاك الجمهور بعيدا عن الالتفات لهذا الضابط.
وليقع العرض رغم الإيجابيات، لمشكلات فنية، في النص الحواري والركون إلى “الإفيهات” المباشرة، خصوصًا تلك التي بُنيت على التكرار أو التعليقات النمطية المتداولة في محتوى الكوميديا التجارية.
هذه المبالغة أضرت بإيقاع النص، وأفقدت بعض المشاهد جودتها الدرامية، بل وحجبت العمق المطلوب في لحظات كان من الممكن أن تكون مؤثرة.
والإشكال هنا لا يكمن في توظيف الكوميديا بحد ذاته، بل في اعتمادها على مفردات خارج الذوق العام، وهو ما لا يتسق مع الفكرة الإنسانية العالية التي بُني عليها العرض. كما أن بعض الحوارات بدت مرسومة لإضحاك الجمهور لا لخدمة الحدث أو تعميق الشخصية، مما أضعف البناء التراكمي للنص وأثر على مصداقية اللحظة المسرحية.
وباستعراض سريع لنظرية” المساحة الفارغة” لعملاق المسرح بيتر بروك، بتحديد فضاء في مكان ما ، ثم تطلب من شخص ما أن يعبر ذلك الفضاء ، وتضع شخصا أمامه ينظر إليه ويتبع خطواته ، حيث أن ذلك كافيا بهذه الخلطة البسيطة أن يكون هناك مسرح في أبسط صوره وأعمق معانيه، وبالتالي فإن كل الديكورات والأزياء والإضاءة والإكسسوارات تبدو لا حاجة لها ، لكننا في مسرحية ” الحكاية سعيدة” نجد أن هذا الفراغ الذي تعبئ بكل هذا نقلنا بعناية مترفة مع المشاهد المتلاحقة لعائلة تروي حكايتها من المنتصف، لتتأرجح بنا كمشاهدين بين عودة للماضي وانتقال للحاضر لنصل لمستقبل محسوم النهاية وبديهي التنبؤ به ، ورغم ذلك جاءت هذه العناصر مكملة ومساعدة بإتقان خدم العرض المسرحي.
وللإنصاف فإن المسرحية من حيث فكرتها العامة، جاءت محمّلة برسائل نبيلة، تتقاطع فيها قضايا العائلة، تتقاطع فيها صورة اجتهاد الآباء في زمن متغير يؤثر على التربية والاختيارات، وكيف يمكننا أن نرد الجميل للأم، والبحث عن الاحتواء في مواجهة الانشغال والتفكك والوحدة، وقضايا أخرى شائكة تراصت مع بعضها بتكثيف مبالغ، وكان واضحًا أن الإخراج اعتمد على بناء مشهدي تقليدي مستقر لحكاية عائلة بها من الأزمات ما يحكي على لسانهم قصص لعائلات أخرى، وهذا ما أتاح للأداء التمثيلي أن يكون هو المحرك الأساسي. كما بدا لافتًا استخدام المواقف اليومية والعناصر القريبة من بيئة المتلقي لتعزيز الارتباط بالحدث الدرامي والتأثير فيه.
“الحكاية سعيدة” قدّمت عرضًا لامس مشاعر الجمهور، وذكّرهم بأن المسرح ما زال قادرًا أن يعانق الحياة ويعيد ترتيب الأولويات بقوة الأم، وحكمة العائلة، ونكهة التفاصيل اليومية، وأن هناك نوايا فنية واجتماعية جديرة بالثقة وممثلين بارعين أبدعوا في أداء أدوارهم، وفريق عمل اجتهد ليكون للمسرح من جديد حضورا جماليًا وإنسانيًا مهمًا في خارطة المسرح المحلي، مع ضرورة التركيز على حاجته لمراجعة أعمق للنص، تُعيد التوازن بين القيمة والطرح، وتستبدل الضحكة السهلة بذكاء درامي أكثر انضباطًا، بضحكات كوميديا نابعة من الموقف، وبمعالجة درامية متماسكة.