موروث المحافظة يتآكل.. آخر “ندّافي” القطيف.. وداعاً عمران الشرفاء يترك "المكينة" و "الدواشق" ويرحل عن 90 عاماً
الخويلدية: حسين الشرفاء، وصُبرة
برحيل السيد عمران الشرفاء صباح اليوم، عن 90 عاماً، يمكن القول إن حرفة “الندافة” في القطيف أصبحت في عداد المفقودين. وإن لم تكن انقرضت فعلاً؛ فإن تهديدها بات حقيقةً، بتلاشي المهنة ورحيل محترفيها، الواحد تلو الآخر.
اليوم ودّعت بلدة الخويلدية السيد الشرفاء الذي قضى سنواته الأخيرة منهكاً بسنوات العمر، متسلّياً في محله الأخير، برفقة “شِيّاب” يرتادون المكان عصر كل يوم، ويتبادلون أحاديث المعمّرين. ومن خلفهم تتراكم “الدواشق” و “المساند” و “التكيات”، وخيوط النسج والقطن.. وآلة “الندف” الكهربائية.. الصامتة..!
ندّاف.. ندافة
الـ “ندافة” هي حرفة صناعة المفروشات القطنية. والكلمة عربية صميمة، والمهنة عالمية، تبادلت الشعوب خبراتها عبر القرون المتتالية. وفي القطيف كانت الحرفة محلية، يتولّاها أبناء المجتمع بأنفسهم دون الحاجة إلى الاستعانة بأيدٍ عاملة. كانت الحرفة يدوية خالصة، تبدأ من تقطيع القطن باليد وفصله عن بعضه، وبعدها نفشه وتنعيمه بالضرب المستمر بواسطة اداة تسمى القوس، وهي عبارة عن عصا منحنية من خشب، تأتي بعد ذلك اداة مهمتها تمليس القطن وفصله عن الوتر ويضرب بها القوس، بعد ذلك يقوم بمهمة تعبئة القطن الناعم داخل قماش، ثم يقوم بخياطته من أطرافه، ويعمل النقوش أو تخطيط أو كتابات على حسب الطلب، والمهمة الأخيرة ترتيب الغرز، وتبعد الواحدة عن الأخرى 20 سم، بحيث تتساوى جميع أطراف المفروشات، حتى لا يتراكم القطن في جهة دون أخرى، ومن ثم وضع قطعة من الحديد لتثبيت القطن تسويته من كل الجهات.
إلا أن التطور والحداثة قد استحوذ، بالإجبار على هذه الحرفة، فبديل للقوس اتت المكائن المستوردة، التي مهمتها ندف القطن بأسرع طريقة وبأقل وقت ومجهود.وقد استفاد الندافون في القطيف منها كثيراً، وأدخلوها في عملهم. والسيد عمران الشرفاء ـ الذي رحل اليوم ـ واحدٌ من الجيل ما قبل الأخير الذي دخل المهنة وهو ما زال ليّن الجسد.
طفل يعمل
كان في الـ 12 حين شاهد الندّافين يمارسون عملهم. وبلدة الخويلدية اشتهرت بهذه المهنة ربما أكثر من غيرها من قرى القطيف. ربما لم يُدرك أنها حرفة أجيال متتابعة، لكنّه أحب التكسب بواسطتها، فتدبّر أمره وتعلم. وبقي لسنواتٍ طويلة مصدر الأثاث القطني في قريته وفي القرى المجاورة.
يوفر “المراتب، المساند، التكيات، اللحافات، الوسائد” التي يصنعها بيده. افتتح محله الأول في مسقط رأسه، ثم ازداد العمل فانتقل الى محل أكبر. وحين شبّ قليلاً؛ وجد الشبّان الآخرين يذهبون إلى الظهران ليعملوا مع شركة أرامكو ومقاوليها.. أغرته الفكرة، خاصة مع علمه بالعائد المالي الوفير الذي يحصل عليه أبناء قريته الذاهبون إلى الظهران. فقرّر اللحاق بهم.
في الظهران؛ وجد بعض وقت الفراغ بعد نهاية “الزام”. فقرر افتتاح محلّ “ندافة” في الثقبة القريبة من الظهران.. وهكذا ربط السيد الشرفاء نهاراته بلياليه في العمل والكدّ.
في الدمام وعنك
ثم تبدّلت بعض الأحوال؛ فانتقل إلى العمل في مغسلة الدمام.. كانت فرصة وظيفية أيضاً. وهناك متسع من الوقت بعد نهاية “الدوام”. كان شابّاً مبرمجاً على نمط حياة فلاح. الفلاح لا يعتدّ بساعات حضور وانصراف.. إنه يعمل من وقت طلوع الشمس إلى مغيبها.. هكذا هي ساعاته. وحين عمل في مغسلة الدمام استمرّ على البرمجة نفسها.
أسس محل “ندافة” جديداً في عنك، وبقي حريصاً على العمل فيها. إنها الحرفة التي أمّنت له دخلاً من عرق جبينه، هو مدير نفسه، وهو العامل، وهو المالك. مهما كانت الوظيفة مغرية؛ يبقى العمل الحرّ أكثر إغراءً. ربما هكذا يفكر “الشاب” الخويلدي في سنوات قوته ونشاطه.
ومن جديد؛ جمع السيد الشرفاء بين وظيفتين، أحداها حكومية في “مصلحة المياه”، والأخرى حرة. وفي العقدين الأخيرين عاد بمهنته إلى مسقط رأسه، حيث بدأ وخصص مكاناً من بيته لممارسة “الندافة.
يعمل النداف في محله، وقد يُستدعى إلى منازل زبائنه. تلك الطريقة معروفة. وكان السيد الشرفاء يبذل جهده. عملية الندافة شاقة جداً، فقد يصل وقت ندف وترتيب وخياطة قطعة واحدة من المفروشات القطنية من4 إلى 6 ساعات، إذا كان الأمر متقناً وبصورة محترفة.
لكنّ للعمر أحكاماً، وللطاقة أمد.. وبالرغم من تطور العالم كثيراً ووجود مكائن حديثة لنفش القطن وتنعيمه، ووجود المنتجات الحديثة، إلا أن السيد عمران الشرفا بقي على مهتنه حتى بعد تقدم عمره و انخفاض بصره، ولم يغلق ابواب محله الى ما قبل وفاته بأشهر، ومع توقفه عن إنتاج المفروشات؛ بقي في محله ما يبيعه. وقبل أكثر من شهر؛ تدهورت صحته، وأتعبته أمراض الشيخوخة، وبقي متردّداً بين المستشفى والمنزل، حتى توفاه الله صباح اليوم.
موديل فوتوغرافي
في السنوات الأخيرة؛ أغرى محلّ السيد في الخويلدية بعض الفوتغرافيين في القطيف. المهتمون بالموروث، زاروه، وصوّوره في مكانه، وحده، وبرفقة “الشيّاب” الذين كانوا يرتادون محله.
بورتريه للسيد علاء الشرفاء
بورتريه آخر للسيد أثير السادة
مجموعة صور لمحمد الخراري
وداعاً للمهنة..!
المهنة انقرضت، وربما كان السيد الشرفاء آخر “ندّافي” القطيف الذي بقي له محلٌّ. وفي بلدة الخويلدية “ندّاف” سابق آخر، هو السيد عدنان السادة الذي هجر المهنة قبل عقود. وقد كان محلّه الأخير في حي “الفتية” ببلدة العوامية.
لكن المؤسف أن المهنة قد تكون رحلت برحيله، ولا توجد مؤشرات تفيد بوجود جيل جديد يحمل همّ استمرار المهنة التي كان أسلافنا يمارسونها بأنفسهم. جزءٌ من موروث القطيف؛ فُقد اليوم، برحيل السيد عمران الشرفاء. رحمه الله.
النداف الخويلدي السيد عدنان السادة، في محله بحي “الفتية” ببلدة العوامية. الصور التقطها الفوتوغرافي الراحل علام الصفار، سنة 1993، لصالح تقرير نشرته صحيفة “اليوم”، من إعداد حبيب محمود.
الصور التالية: لـ: أمجد المدرهم
في حي الخامسة بالقطيف أنشأت البلدية سوقاً للحرفيين، حبَّذا لو يفَعَّل هذا السوق بحيث يضم كل الحرف الشعبية القطيفية بما فيها الندافة و الأكلات الشعبية فيكون سوقاً و متحفاً حياً و حاضناً لبعض الفعاليات التثقيفية و الاجتماعية التي تكثر في القطيف.
ما أحلاها لمة الشيبان. كلها اختفت مع مهنهم رحمهم الله، البحر والنخل والندافة وأعمال النحاس والحدادة وغيرها من المهن.
هكذا هو الزمان!