ربيع العمر
بلقيس السادة
نظرت خارج نافذة القطار، مازال العشب أخضر، ومازالت الماعز ترعى في أرض الله، والطيور تغرد بأصواتها الجميلة، لماذا توقفت إذن حياتها مباشرة بعد دخولها عتبة دارهِ، لماذا انحرف بها القطار ورماها خارجهُ عارية بدون طعام ولا كساء، لماذا اصفرت سنوات عمرها وتقوقعت كسلحفاة خائفة من ردود فعل المارة لكي لا يتلقفوها بالضرب!!!
اختارته بملء إرادتها، أحبته، بدا لها رجل مُحب، لكن في معاشرته كان عكس ذلك تماما، من شدة خوفها منه استكانت وتراجعت القهقري إلى زمن سي سيد، حتى أفاقت على عمرها الذي مضى بحسرة وضياع، في الهم والغم والبكاء، والطاعة العمياء.. طالبت بالانفصال، وكان لها، بعد عناءٍ ومشقة.
عاشت بين أهلها معززة مكرمة، لكنها لم تتعلم الدرس!! أعادت الكرة مرة أُخرى.. تزوجت، لا يختلف كثيراً عن زوجها الأول إلا بخبثه وتلونه بشكل أنيق ومدروس، توقعته، لأنه متعلم مثقف، يفهم الأحاسيس والمشاعر، لكنه كان كحية تُغير جلدها كلما سنحت له الفرصة، طلبت الطلاق، وقد كان !!
بعد تجربتين فاشلتين فتشت عن نفسها، خُيل لها أن العيب منها، ماذا تفعل؟؟، وقد ضاقت بها أرض الله وفضاءه، أصبحتْ مُنغلقة أكثر، نادراً تجلس جلسة عائلية، أو تلبي نِدائهم للخروج معهم.
حددت موعد مع دكتورة نفسية، وكانت جلساتها بمعدل جلستين كل أسبوع، وبعد أن باحت وباحت واستراحت!! وبعد إكمال شهر تقريبًا،
سألتها الدكتورة: ماهي علاقتك برب العالمين؟؟
تفاجأت من السؤال، وردت عليها باقتضاب: أنا أكلمك عن مشاكلي ونفسيتي المُتعبة، وأنتِ سؤالكِ خارج الحدود!!
هنا انتبهت مي لكلامها، كأنها تخبرها بأن علاقتها مع الله حسب المزاج، إن كانت مبتهجة تذكرتْ وصلّتْ، وإن كان مزاجها مُتعكر تناستْ!!
الدكتورة: كيف خارج الحدود!!، وهو أنيس المُتعبين، وتقربك إليه وذكرك إياه يُسهل لكِ كل أمورك ويشرح صدركِ، ويُرشدك، بُنيتي، نفسيتكِ متعبة لأنك بعيدة عن الله، هذه باختصار مُشكلتكِ، كما أن الله عز وجل حبانا بالعقل والذي سمته الاختيار، أي التفكير السليم الراشد المُنتج للاختيار، هذه ليست ميزة عند كل البشر، لذا أحسني نوعية اختياراتكِ في الحياة، تقربي إليه أكثر وسترين النتيجة .. وبعد أسبوعين سأراكِ، حسنًا؟
هزت مي رأسها بالموافقة وأخذت شنطتها وخرجت!! وفي داخلها تساؤل وحنق: دفعت لها أكثر من أربعة آلاف ريال، والآن تُخبرني أصلحي علاقتك مع ربك!!
وهي في طريقها لمحت امرأة فقيرة جالسة في الشارع تبيع بعض الحلويات البسيطة، مدت يدها وأخرجت لها مائة ريال، هناك انشرح صدرها لأول مرة بدعاء المرأة: روحي يا بَنتي الله يسهل أمرك، ويفتح لكِ من أوسع أبوابه بالهداية والرشاد ..
وصلتْ المنزل، شاهدت والدتها تستعد لصلاة الظهر، كأنها لأول مره ترى والدتها تُصلي، ما هذا الشيطان الذي استولى عليّ وجعلني لا أرى كل شيء جميل في هذه الحياة؟؟، صعدتْ غرفتها، قامت للوضوء وتجهزت للصلاة، نعم، منذ زواجها الأول وهي تاركة للصلاة، لأنها لم تحصد السعادة والراحة معه!!، كأن ربها بحاجة لصلاتها!!، كانت علاقتها بربها علاقة مادية بحته، إن أعطيتني ما أُريد كنتُ لكَ كما تريد!!! خجلتْ من تفكيرها، وقلة إدراكها للأمر، وأدبها مع الله تعالى !!، وكذلك بزواجها الثاني الذي كان يتستر من خلال الاستقرار أمام الناس، بعلاقات خارجية مُحرمة..
كيف استقر بها الحال هكذا، وكيف كانت تفكر، استغفر الله وأتوب إليه، هل يقبل الله توبتها، ويمسك بيدها ويعيدها من جديد إليه، أم يطردها من رحمته وغفرانه!!..
جلست على مصلاها، أخذت قرآنها، وهي تتلوا: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”..
أعادت مي برمجة تفكيرها، وتدوير حياتها من جديد، أصبحتْ أكثر قربًا واستعطافًا إلى خالقها، أصبحتْ أكثر ثقة بنفسها، اهتمت بحجابها أكثر، وبالقراءة عن الله عزوجل، وسماع المحاضرات الدينية ..
نعم لقد كانت تجربتين فاشلتين!! لكي تعرف وتصل إلى أن تعبُد من خلقها عن معرفة وفهم ووعي وعشق، وليس عبادة واجب وفرض، “أحبك يا إلهي ومعشوقي الأبدي، قد أكون أخطأتُ الطريق في الحياة، وقصرتُ في الوصول إليك، لكن يا إلهي ها أنذا بين يديك خذ بيدي لما فيه صالحي في الدين والدنيا، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ أبدا”..
بعد أسبوع كلمت دكتورتها، شاكرة لها، وتُخبرها بأنها ليست بحاجة لها.
عاشت مي بطمأنينة لم تَشهدها من قبل.. تزوجت من رجل أرمل، قامت معه بتربية أولاده الثلاثة بما يرضي الله عزوجل، كما رزقها الله بطفلةٍ جميلة أضفت على حياتها مزيدا من المودة.