وليد الزاير.. عالم آثار سعودي وضع اسمه على كنز “أميرة ثاج” بقرار وزاري شارك في اكتشاف أكثر من 400 موقع.. ورحل في أوج عطائه

كتب: محرر صُبرة

في الـ 9 من شهر صفر 1419، الموافق لـ 4 من يوينو 1998م؛ رحل عالم الآثار السعودي وليد عبدالعظيم الزاير، في حادث مروريّ وقع له في طريق الخليج بمدينة سيهات. رحل وهو في سن الأربعين، في أوج عطائه، وبعد المشاركة في توثيق أكثر من 400 موقع من آثار المنطقة الشرقية.

وأثناء توليه منصب مدير الشؤون الثقافية والمتاحف بالمنطقة الشرقية؛ اتخذ قراراً شجاعاً بتسوير عشرات المواقع غير المسجّلة في الآثار، فحماها من مزيد من العبث والتخريب.

وفي السنة التي قدّم أهمّ إنجازاته الأثرية؛ وقيادة فريق عمل نجح في اكتشاف واحدٍ من أهم المواقع الأثرية السعودية، ليكون هذا الإنجاز؛ آخر ما قدّمه لوطنه ولآثار المملكة العربية السعودية.

الأستاذ موسى رضوان؛ يراجع الكتاب الذي يتحدث عن الراحل، بعنوان “تل الزاير”، ويُضيف شهادةً منه، بوصفه مزاملاً سابقاً له في العمل.

موسى جعفر رضوان

“تل الزاير” الذي حمل اسم قائد فريق البحث وليد الزاير

بعد أكثر عقدين من ارتحاله إلى الملكوت الأعلى؛ ظهر كتاب “تلّ الزاير” توثيقاً لحياة عالم الآثار السعودي وليد عبدالعظيم الزاير وإنجازاته الأثرية. الكتاب تصدّى لتأليفه نذير خالد الزاير، ونشره في 201 من الصفحات. وتناول الكتاب الموقع الأثري الذي حمل اسم الراحل بقرار من وزير التربية والتعليم، وقتها، الدكتور محمد الرشيد، حين كانت الآثار تحت إدارة وكالة المتاحف والآثار في الوزارة. كان قرار الوزير عرفاناً لدور الراحل، واحتراماً لذكراه.

الراحل وليد الزاير

خسارة

بوفاة وليد الزاير خسرت المنطقة الشرقية أحد أجمل وأرقى رواد الآثار السعوديين الواعدين والمؤسسين للبحث العلمي الجاد في المنطقة، وأحد المؤمنين بضرورة إماطة اللثام عن تاريخ المنطقة أركلوجيا لتبيان العمق الحضاري، وأحد أبرز أصحاب المبادرات التي قادت إلى توثيق أكثر من 400 موقع أثري في المنطقة، منذ فجر السلالات البشرية، مروراً بالعصور الحجرية، وصولاً إلى العصور الدلمونية، العبيدية، الهلنستية والإسلامية المبكرة. هذه الحضارات كان لها الأثر البالغ في تموج الحياة على هذا التراب المبارك الذي تمازجت فيه وشائج الثقافات الإنسانية والدينية والاقتصادية مع المحيط العالمي عبر الطرق التجارية البرية والبحرية.

مبادرة

وجاءت مبادرة نذير خالد الزاير لتأريخ هذه الحقبة المجهولة ـ أثرياً ـ بالنسبة للكثير من أبناء المجتمع، محاولة لإعادة ترميز شخصية عالم الآثار وليد الزاير الذي عُرف بطموحه وبخطواته الأكثر جرأة في البحث العلمي وتحسساً للمسؤولية التاريخية التي تفضي إلى ترسيخ انتماء ابن هذه الأرض لجذوره.

“تل الزاير” هو أول كتاب يتحدث عن أحد أكبر الاكتشافات الاثرية، وهو اكتشاف كنز أميرة ثاج، بقيادة وليد بن عبدالعظيم بن عبدالمجيد الزاير التلميذ النجيب لمؤسس كلية الآثار بجامعة الملك سعود عميد الآثاريين الدكتور عبدالرحمن الطيب الانصاري، رجل المهمات الصعبة كما وصفه وكيل الوزارة لشؤون الآثار والمتاحف الدكتور سعد بن عبدالعزيز الراشد.

وليد الزاير كما عرفته

الأستاذ وليد الزاير الذي تسلم منصب إدارة الشئون الثقافية والمتاحف بالمنطقة الشرقية (1416-1419هـ) لم يكن مجرد شخص آثاري عادي، بل كان اختصاصياً آثارياً ضليعاً في اجادة قراءة الخطوط التاريخية القديمة كالمسند الحسائي الذي يعود لـ 350 ق.م ويُنمى إلى اللغة المعينية، وقد عُثر على نقوشها في مدينة “ثاج” ومدافن “جاوان” بصفوى. وأول من قام بتسميتها بالحسائية هو ألبرت جام (1966م) الموفد من قبل وكالة الآثار والمتاحف آنذاك.

 خلال فترة عمله بمجال الآثار (1404-1419هـ) كون شبكة علاقات علمية خلال فترة وجيزة مع المهتمين بتراث وتاريخ المنطقة من الكتاب، واستطاع استقطاب وجذب وتشجيع الكثير منهم على الكتابة والتأليف من خلال لقاءاته اليومية المباشرة، التي كنت أحد شهودها خلال عملي في متحف الدمام الإقليمي.

وقد أمدّ الكثير من الباحثين الأكاديميين السعوديين والأجانب بالمصادر والشواهد العلمية الأركلوجية قراءة وتحليلاً، سواء من السعوديين منهم أو الزوار الأجانب من مختلف دول العالم الذين كانوا يترددون باستمرار قاصدين زيارة ودراسة آثار المنطقة ميدانيا.

كاريزما

كان لشخصيته وأخلاقه العالية كاريزما تستهوي مريديه من الاكاديميين الذين كان يستغرق بعضهم العيش بين ظهرانينا لشهور وهم يوثقون المعثورات والشواهد المادية المكتشفة ويصنفونها ويدرسونها. ومن بينها معثورات مقابر جنوب الظهران، ومقابر عين السيح التاريخية التي شارك فيها الراحل كما يورد ذلك وكيل وزارة الاثار والمتاحف رئيس متحف المصمك لاحقاً الدكتور علي بن صالح المغنم إذ يقول:

“كان أول عمل ميداني لوليد الزاير بعد تعيينه مشاركته في أعمال التنقيب بمواقع مدافن جنوب الظهران (1404-1405هـ). وقد تميز عمله الميداني بالاهتمام والدقة في البحث والتنقيب بالتل الاثري الذي عهد إليه وأثمرت مهنيته في التنقيب عن العثور على خاتم ذهبي يعتبر من الشواهد الأثرية المهمة في تاريخ شرق الجزيرة العربية خلال العصر الأشوري في عهد نبوخذ نصر (605-562 ق .ب) “.

الدكتور محمد الرشيد، وزير التربية والتعليم الأسبق، رحمه الله

إنجازات

وينسحب هذا النجاح والتألق في شخصية الفقيد العزيز على الكثير من الاكتشافات و المبادرات منها:

  • دعونه لمبادرة حماية شواطى المنطقة، وتحديداً حماية نباتات القرم (المانغروف) التي توفر بيئة خصبة على شواطئ المنطقة. وأكبر تحد كان يواجه هذه الشواطئ هو دفن البحر لاستخدامه في بناء المخططات العمرانية السكنية الجديدة.
  • استكشاف وحماية تلال الزور وفريق الأطرش والربيعية وتل الرفيعة الأثري التي شهدت عدة تنقيبات استكشافية أثمرت عن كشف مواقع موغلة في القدم، من خلال المعثورات المتميزة للادوات المصنوعة من الحجر الصابوني المستخدم في الكثير من الأواني والتماثيل، وابرز من كتب دراسة ماجستير عن معثورات هذه المواقع هو علي بن إبراهيم الحماد في رسالته الموسومة بـ “أواني الحجر الصابوني من جزيرة تاروت 3000 إلى 500 ق.م”.

قلعة دارين كما كانت سنة 1917

  • لطالما طالب، صحفياً وآثارياً، بحماية القلعة التاريخية المسماة بقلعة محمد بن عبدالوهاب الفيحاني (1303-1324هـ) أكبر تاجر لؤلؤ الخليج [في زمنه] باعتبارها معلماً تاريخياً، وعاش في المنطقة في أواخر الدولة العثمانية مكلفاً بإقامة ميناء عثماني تجاري في دارين في مقابل ميناء الزبارة البريطاني. وقد تواصل الراحل مع ورثته لسنوات في محاولة لنزع ملكيتها لصالح إدارة الآثار، ومن ثم تحويلها إلى معلم سياحي يمكن أن يؤمه الزوار.
  • كما عمل على المطالبة بترميم المواقع الأثرية، ومنها قلعة محمد بن عبدالوهاب الفيحاني التي بنيت على انقاض مبان تاريخية قديمة وعُثر بالقرب منها على كنز العملات الساسانية (1401هـ) من قبل الشركة الكورية الموكلة بالتخطيط لشبكة الصرف الصحي (راجع مقالة د.علي المغنم مجلة الوثيقة العدد “7”1985م ص 78).

حمام أبو لوزة قبل تسويره وحمايته

  • بادر إلى تسوير المواقع الأثرية بعد عمليات المسح الآثاري، مثل حمام أبو لوزة، وعين الكعيبة وغيرها كثير، وحينما أقول تسوير؛ فإن ذلك يحتاج لنزع ملكيات، مروراً باستخراج حجج الاستحكام والاتصال بالجهات ذات العلاقة. وهذه الأمور عادة ما تستزف الوقت بالروتين لسنوات. وأورد ذلك للقول إن المبادرة تحتاج إلى شجاعة قبالة التعديات على المواقع الأثرية، وهي شجاعة فورية تنبىء عن حرص وحزم وبعد نظر، وقد كان الراحل مبادراً لاختزال كل هذه العقبات، لأنه حمل هم تاريخ وطنه مهما كلف ذلك من اثمان، ولعل كشف كنز أميرة ثاج (1419هـ) هو إحدى تلك الثمرات لحالات التعدي التي كانت ستحدث، لولا المبادرة بتشكيل فريق علمي لإثبات أهمية المكان التاريخية.
  • طالب بدراسة وحماية أنظمة الري التاريخية الممتدة تحت الارض في عدة مناطق، ودراسة دورها في طرق الزراعة المتماثلة مع الأسلوب السومري في بلاد الرافدين بحكم التأثير الحضاري المتبادل.
  • عمل على حماية ما تبقى من قلعة القطيف الساسانية ممثلة بحي الزريب، على أمل تحويلها إلى متحف. والقلعة هي أكبر شاهد معماري يؤرخ للعمارة التقليدية العائدة للفترة الساسانية، وقد عمل على عدة دراسات معمارية للعمارة التقليدية كنموذج بيت الشماسي، بالتعاون مع كلية العمارة بجامعة الملك فهد للبترول آنذاك، وخلص لنتائج رائعة.

  • ساهم في ضبط تجارة التراث الشعبي. وفي هذا المجال قام بحصر الجهات والتواصل معها لتسهيل عملية إنشاء المتاحف الشعبية الخاصة، وإصدار التراخيص، ومنها متحف عبدالله الاسمري داخل مطار الظهران، ومتحف القطيف الحضاري لحسن العوامي، وإشراكهم في المهرجانات الرسمية والمواسم السياحية لتنشيط الحركة السياحية.
  • ساهم في إقناع الكثير من الحرفيين التقليديين في المنطقة باللمشاركة في إبراز التراث الشعبي في المهرجانات التراثية، وقد استجاب له الكثيرون من أصحاب الحرف الشعبية.
  • تواصل مع الفنانين التشكيليين في المنطقة، لإقامة المعارض التي تبرز الموروث الشعبي، وقد كان حصيلة ذلك عدة معارض رائعة كان لها صداها في حينه، وعلى سبيل المثال لا الحصر التشكيلي عبدالعظيم الضامن، المصور عبدالرسول الغريافي، علي الصفار، والأستاذ محمد المصلي.

محمد صالح الفارس في متحفه

  • المبادرة لإنقاذ تراث محمد صالح الفارس بعد وفاته، فقد اهتم الفارس بجمع تراث القطيف لأكثر من تسعين عاماً، وبعد عرضه في المزاد العلني، عمل الراحل مع الدكتور علي بن صالح المغنم على مبادرة جمع هذا التراث، وتحويله لعمل متحفي يؤرخ للصناعات البيئية كصناعة ماء الورد في القطيف، وصناعة الأبواب والصناديق المبوّته من خشب الساج والصناعات البحرية وصيد اللؤلؤ والبشتخته، ونماذج الأسلحة في العهد العثماني والعملات والصناعات النخلية وصناعة السدو والمخطوطات ونماذج البيت القطيفي كغرفة العروس والمقلط (المجلس) وصناعات المرأة الريفية ومهارات المرأة القطيفية وأقدم نسخة مخطوطة للقرآن الكريم، تعود لأكثر من 400 عام.

منهجية الباحث

أفرد الباحث نذير الزاير للتعريف بالشخصية من خلال التعريف بآخر إنجاز آثاري، وهو اكتشاف قبر أميرة ثاج (1419هـ)، والمرجح تاريخه حسب الدلائل والتحاليل المعملية، أنه يعود للقرن الأول قبل الميلاد، وقد عُثر بداخله على الكثير من أسرار تلك الحقبة المجهولة وسط قبر مموه برماد الفرن الفخاري لأقدم مصنع فخاري متكامل تم اكتشافه في الجزيرة العربية في فترة لاحقة (1423هـ)، والواقع على بعد 12 متراً من قبر الأميرة (في الموسم التنقيبي الخامس)، حيث كانت تصنع به الآلهه و”التركوتا” الصغيرة والصناعات الفخارية المشابهة لما هي عليه مصانع الفخار في الأحساء حالياً.

وقد تمكن الفريق العلمي آنذاك ولاحقاً، وعلى مدى عام ونيف من الدراسة والتحليل من فك رموز الكثير من المكتشفات الجنائزية والطقوس الدينية والوسوم على مكتشفات المعادن النفيسة كالذهب واللؤلؤ والاحجار الكريمة، وتحليل طرق سبكها، إضافة إلى التماثيل البرونزية التي صنعت بدقة فنية عالية، وكذلك النقوش وصور الآلهة كالآله زيوس (إله الأرض والسماء في الأساطير اليونانية)، والإلهة ارتميس  (إلهة الصيد والبرية، حامية الأطفال، وإلهة الإنجاب، العذرية، والخصوبة). وقد طُعّمت بها صور الخواتيم والقطع الذهبية والقلائد المكتشفة ورسوم العقائد الدينية الموسومة على السرير الجنائزي والقناع الذهبي على وجه أميرة ثاج آنذاك، وهي تُنبئ عن مستوى الاتصال الثقافي والتأثر بين الحضارة اليونانية وحضارة تدمر وحضارة بلاد الرافدين على درب الكنهري التجاري، وأوجه العلاقة بين ميناء الدفي في مدينة الجبيل ومدينة ثاج أحد أهم المعابر التجارية الرئيسية ما بين الطرق التجارية القديمة داخل وخارج الجزيرة العربية.

 

استمرار

هذا الانجاز دفع بإدارة الآثار للعمل على مزيد من الكشوفات، وحفز حتى البعثات الأجنبية المشتركة على سبر أغوار هذه المدينة الأثرية. وكان آخرها مشاركة البعثة الفرنسية الأثرية لاستجلاء المزيد من التنقيبات لاكتشاف الصلات الحضارية بين مقتنيات مدينة ثاج والحضارات الأخرى، استكمالاً للجهود الآثارية التي تحدث عنها الكثيرون، أمثال دانيال بوتس، وجيفري بيبي منذ أمد بعيد.

أخيراً..

صدق الدكتور عبدالرحمن الطيب الانصاري عندما توسّم في الفقيد الراحل الأستاذ وليد بن عبدالعظيم الزاير، وعلق عليه الآمال كثيراً، ورغم صدور هذا الكتاب؛ فإن هنالك الكثير مما يجب أن يُقال، وستظل رمزية الفقيد الراحل محثاً لكثير من البحاثة ممن سيأتي لاستكمال ما شرع به من طموحات، وعزاؤنا في فقده أن وطننا ولاد بالكفاءات من المؤرخين والاركلوجيين والباحثين ممن تشربت قلوبهم حب هذا الوطن المعطاء.

رحم الله الفقيد عالم الآثار السعودي الفذ وليد الزاير، والشكر كل الشكر للأستاذ نذير خالد الزاير، على هذا الجهد المبارك، على أمل ان تكون تستكمل بادرته بالمزيد من تسليط الأضواء على هذه الشخصية الملهمة والعظيمة.

 

 

 

  

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×