مشعوذ اللغة.. محمد الماجد
صلاح الغانم
فقط لمن قرأ الحلقات منذ “تلك الرواية.. ذلك الدليل” وحتى “جلبرت سينويه في مواجهة ساركوزي”
“أنا زكريا المرسنلي”. هكذا ابتدأت رواية (الياطر) لتظل هذه الكلمات الثلاث عالقة بذاكرة معظم من قرأها، وكأن كاتبها حنا مينة أصر على أن يأخذ “المباشر” لأقصى مدى، مزيلا بذلك أي شبهة حداثية. ذلك وإن حملت هذه الجملة وهج البيان الأول لحنا مينة إلا أنها كانت متسقة وسياقات الواقعية الاشتراكية والتي لم تتوسل بالمواربات الحداثية ولم تقدم للّغة ما يُشَعْرِن نصوص نتاجات تلك المرحلة. تكرر ذلك في ثلاثية البحر ولم يخبُ وهجها بل اجتذبت الباحثين عن الجمال بمعزل عن التنظيرات والأطر الحداثونخبوية، فجعلت من جورج طرابيشي يحاور سعيد حزوم. بل حاور أباه أيضا “صالح حزوم”، على غرار استحضار فيكتور هوغو لهملت وأبيه أيضا!
ليس لهذا علاقة بالدليل الذي قدمه مشعوذ اللغة في أول مقالة نشرت له في صحيفة صبرة إلا جملته الأولى: “أحببتُ أن أشير هنا…”. حيث تخلص الماجد من كل تراثه اللغوي الباذخ وتعرى أمام الأضواء مصعدا أناه إلى الخشبة مستلبا الأضواء “مشيرا” – كما الربان – لما سوف يقول: “أنا من يقرر صرف مدخرات اللغة”. لعلها الصارية وليست الخشبة إذ إنه وفي معتقاته تعرى ذات (مسند) وانتصب على رأس الصارية “فأشير بإحدى سبابتيَّ إلى المضيق وبالأخرى لمصب النهر”.
وكيف لا يكون رباناً وقد طفى حين أراد وغاص حين رغب وهذه سمة “الأدلاء”. لم تكن المرة الأولى التي ينحي نفائسه ويقتصر على روحه فذلك ما فعله بعد إصداره الأول “مسند الرمل” حينما “أضرم في رحله وأجل المسافة”. حيث بلغ شوطه حداً لا معنى فيه لتكثرات اللغة أمام وحدة المفرد بصيغة المفرد!
هكذا كانت البذرة التي تلتها تسع حلقات – سينهك النقاد في إيجاد تسمية لها؛ أهي دراسة أو إضاءة أو قراءة، ليس مهماً. فبعد أن تقطع مئات الكيلومترات مع (مشّاية) باولو كويلو والماجد مازال في المقال رقم (٢)، تتضاءل عندك كل مصطلحات النقاد وما يتشدقون به من أسماء يتوسلون بها لإضفاء حالة نخبوية على ما يهذون به؛ وهو لا يعدو لغة “كار” (Jargon) – براءٌ مما يلامس الجمال الحقيقي، في فلم (الكيف) نجح يحيى الفخراني في تصوير هذه الحالة “احنا اللي حطينا الشنطة في الأونطة”. العلاج لهذا الوباء أسهل بكثير مما ننتظره لكوفيد ١٩: وصف ماركيز كان الأدق ووصفة روسا كاباركاس كانت الأنجع.
كانت لهذه السلسلة والتي يصدق عليها ما ذكره في أحد عناوين المقال (٩) “أنا أفكر بصوت عال” ديناميكية تعمل بفيزياء العجلة ولكن الأخطر، هو أن تأثيرها على القارئ أشبه بالسقوط الحر فتتوالى المشاهد من زوايا عديدة جاوز فيها الماجد أبعاد فيزياء الكم لتشعر وأنت تقرأ: هل هذه فعلا الرواية التي قرأتها؟!
لكن أبو طبيع.. لا يملك الماجد إلا أن يكون سخيا في بث جمالياته لحد الثمالة، وإن اعترضته إفاقات ضرورية ولكن بدون هانق أوفر؛ “سأقف بهذا المديح هنا على حافة أفشنة حتى لا أفسد مقالتي بالمجاز الفائض”، الخوف أن تكون هذه الإفاقة هي السبب في توقف الحلقات عند التاسعة، تباً لهذا الوعي. فالحق أنك لا تدري أصلا إذا كنت في أعماق محيطاته اللغوية وأن المباشر من لغة المقال كان بمثابة صعود تكتيكي لأخذ نفس قبل معاودة الغوص أم هو العكس. صورٌ من التشكيك الوجودي.
السلسلة أشبه بإدانة للمشهد الثقافي والذي حتى في زمن كورونا ومتتاليات اللقاءات الافتراضية الأكثر مما سجله التاريخ، ظلت معظم الأوراق المقدمة تبعث على حالة واحدة محمودة وهي النوم! الأجمل أن حالة صمت أصابت (المهتمين)، أو اندهاش إن لم نقل حنق. أفلا يكفيه أن يسلب أضواء أي أمسية يشارك فيها؟!، فما الذي دهاه ليدخل هذا الخن الآسن، الذي، ومع الأسف، يحتاج للتخلص من “تجاعيد الحداثة التي أكلت وجوهنا”.
هناك سبب واضح جدا وهو أن الروايات موضع البحث معظمها وعلى جمالها متوفرة ومعروفة جدا حتى للمبتدئين وهذا بالضبط مالا تريده كتيبة المثقفين. لو تعرض الماجد لكاتب في جزيرة الهيرستروم من الكاريبي لا يعرفه إلا جاره وبنت حارس مدرسة الحي؛ لأعطي بطاقة العبور للجوقة النخبوية والتي ستكتشف لاحقا أنها لا تعرف الجزيرة لكنها تعرف مقاسات بنت الحارس!
الماجد كان دقيقا جدا في تصويراته ومحاكماته بل واختيار زواياه، دقة الحبل الذي كان يمشي عليه؛ مقدما المقال (٥) كصك براءة لرواية “عزازيل” وإبعاد أي تهمة اقتناص من “اسم الوردة”. ولكن أيضا يدين يوسف زيدان – كاتبها (أي عزازيل) – في المقال (٨) ويحمله مسؤولية تَحَطُم قارب فردقان. هذه الدقة والرصانة، لم تصبه بالأعراض الجانبية لبعض النقاد والتي تبدأ بالسباحة على الظهر، وهي الحالة التي ذكرت في المقالة (٤) ولم تذكر تبعاتها حيث إنهم يقطعون بحور الرواية سباحة على الظهر كي لا يروا إلا السماء (أحد أسباب تضخم الأنا – حسب مجلة يو ساينس)، وحتى تصل إلى المرض العضال “ثقل دم”. رحم الله أبا عدنان وهو يرصد في فرسان سوق المناخ فقدان خفة الدم عند مدعي الرصانة: “وزير ودمه خفيف”. هنا لابد أن تحار بين قانون ابن سيناء و “حبة” بخاري!
الفارق الحقيقي هو أن تناول المبدع للإبداع تجربة بمرقاة عما يقدمه النقاد من قراءات متطفلة على الإبداع مسميةً التقاطع بالتوازي. فعند قراءة المقال (٣)، خطر ببالي رواية (الفتى المتيم والمعلم) لايلف شفق إذ أن دماء (سنان) تسري في تجربة الماجد (المعماري) وهذا فيه العذر لبعض النقاد إذا تَعَذَّرَهم الفرق بين التقاطع والتوازي.
الأخ صلاح الغانم
أقدم لك اعترافي بأنني قرأت مقالا ثريا جدا. فقاموس المفردات تسير مع الاستشهادات الروائية وتبدو الجمل ذاهبة وجائية بين الأسماء والمقاصد في كل أعادة لنص أو رواية أو استوقاف معنوي من الماجد وسلة المشتبكات المعرفية ووصلاتها مع غيرها.
من قبل أشدت بنبوغكم الأسلوبي والمعرفي وأنت تكتب في صفحة الفيسبوك وها أنت الآن تركب موجة النشر الرسمي.
لي كلمة أخيرة.
نحن أمام نبوغ تحليلي ومعرفي واسع المدى في نقد النص الروائي وإدراك العلاقة بين المنتوج المحلي والعالمي.
إنها مفخرة وطنية تستحق الإشادة