[2] الشيخ عبدالكريم آل زرع.. الشاعر الإنسان

علي مكي الشيخ

 

حين تحاول أمرًا ما، ولا تستطيع الوصول إليه، وحين تَجِدُ فراغه يملؤك حدَّ الشك الممزوج باليقين حين تترسبُ في قاع الدهشة وأنت لا تدري كيف ومتى دخلتها..!!

حين تكون أسيرًا لكائن غيبي بحجم حضوره، فإنك في حضرة الشاعر الإنسان الشيخ عبد الكريم آل زرع التاروتي شاعرٌ قبلَ أنْ يولد.. ببضعِ ثوانٍ تجرأ على القدر وفضح عَنْ مِرَّةِ مكنونه اللامحدودةِ.. واستطاع أنْ يداعب سِرَّ ولادته بمخاضِ الألقِ فكتب ميلادَهُ.. بتفعيلةٍ ممهورةٍ بإيقاعٍ عروضيٍّ مُتْقنٍ..

فَتَعَلّمتْ منه البدايات حكايةً جديدةً لرقصةِ البياضِ ساعة عانق فيها الحياة بضجيجها الأخاذ، وترانيمها المنفردة وعَزفها الآسر..

في هذا الجزء سنتحدث عن تجربة الشيخ آل زرع الشعرية مِنْ حيث الدوافع والرؤى وذلك مِنْ خلال استنطاق شعره وبعض آرائه.

الشيخ آل زرع يكاد يكون جُلّ شعره وقفًا على الشعر الولائي ولا تكاد تجد له نصًا خارج هذا النطاق وتُعّدُ هذه المهمة مِنَ الصعوبة بمكان، فهو أمام تحدٍّ كبير في عدم الخروج عن هذا النسق وكيف يحافظ على تمظهره بحيث لا يكرر ذاته ويستطيع أن يكن مغامرًا ويأتي بالجديد في كلِّ نصٍ ولائي بامتداد عمر التجربة التي نافت على الأربعين سنة.

يقول الشاعر جاسم الصحيح في ديوانه “أعشاش الملائكة”:

“إنّ الوقوف أمام شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وشخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.. إنّ الوقوف أمام هؤلاء لابُدّ أن يسدل حجابًا مِن القدسية، وظلالاً من هيبة الاسم بين المبدع ومحاولاته تجاوز ما هو مألوف، ولكنّ هذا الحجاب لايرغم المبدع على تقديم استقالته من التفكير مهما كانت تلك الظلال مهيبة..”[1]

إذن فالشاعر الواعي يستطيع توظيف المناسبة باقتدار فارع واحترافية فائقة وإن تكررت في كلِّ عام، والشيخ آل زرع سخر موهبته وخصصها لمدح ورثاء آل محمد (ص) تحقيقًا لما ورد مِنْ أحاديث معصومة حول أهمية الكتابة فيهم عليهم السلام ومما ورد في وسائل الشيعة ج11

“عن الحسن بن الجهم.. قال:

سمعت الرضا عليه السلام يقول: ” ما قال فينا مؤمن شعرًا يمدحنا فيه، إلا بنى الله له مدينة في الجنة أوسع مِن الدنيا سبع مراتٍ، يزوره فيها كل ملكٍ مقرب وكل نبيٍّ مرسل “[2]

إلى غيرها الكثير من المرويات الدالة على أفضلية هذه الشعيرة الإبداعية، وذلك لما لها من أثر بالغٍ في تثبيت معالم الولاء ونشرها.

ولا أريد الحديث هنا عن الجوانب الفنية لمنجز الشيخ الشعري فهذا بحث مستقل وسأكتفي بالإشارة لقراءة الأستاذ الجميل فريد النمر حول الخصائص الفنية له يقول فيها:

“عند قراءتك لنصوص الشاعر الشيخ عبد الكريم آل زرع لا تحيد في رؤيتك الشعرية عن كونه شعرًا تصويريًا وفنيا ذا علاقة لحالة شعورية عارمة مكتنزة بالموهبة الشعرية وذا بداهة وفطرة تعبيرية هائلة في توليد الفكرة والصورة بلغةٍ جزلةٍ وعفويةٍ تنحدرُ مِنْ عقلية مليئة بالشعر منسجمة مع الذائقة الجمالية مِنْ جهة الموروث الشعري الكبير ومِنْ جهة أخرى متكئة في ذاتها على الصدق العاطفي التي تختزله الرؤية الحياتية لواقعها الانتمائي والاعتقادي “[3]

فنحن أمام أستاذ الشعراء الولائيين في القطيف، وهب كُلّه للشعر فتماهى بمفاصله فأصبح كتلة إبداع تتحرك بين جنبات آل طه.. رافدًا كلّ مناسباتهم برهافةِ إحساسه ورقةِ شعوره حتى صار يشار إليه بالبنان وحَرِيٌّ به ذلك..

ينطلق الشيخ آل زرع في رسالته الشعرية مِنْ استراتيجية الحبّ الخالص والولاء المطبوع بطين خلقه، لذا تجده يكتب النص السهل الممتنع والذي يحمل رسالة على حد قوله:

“الشعر عندي رسالة وإذا خلا هذا الشعر مِنَ المعنى وصار غارقًا في الإبهام فليس شعرًا “[4]

وما أرق هذه الرسالة وأعذب هذا الهدف الرباني الفارع لنقف مِنْ خلال أفياءِ شعره على بعض المحطات المهمة والتي ترسم لنا بعض أبعاد الشخصية الولائية.

 

التَّعالقُ الأبدي

نجد أنَّ الشعر والإبداع يتماهيان بعقيدة الشاعر وما الشعر وما قيمته إلاَّ مع هذا العشق العلوي، فالشاعر منغمسٌ بكلياته مع هذا الفن الولائي ولايرى لغيره ميزةٌ تعلو هذا الاتجاه..

يقول الشيخ آل زرع في نصه “الشافعة”

يكفي العتاب ألست تدري

فيمن أصوغ جميل شعري

شعري الذي غَذَّيتُهُ

روحي به بسناه تسري

وحُرُوفُهُ سطرتُها

مِنْ مهجتي وخبيءِ صدري

قَدَّسته بدمِ الهوى

في فاطمٍ ودماي حبري

ورسمت فيه روائعًا

مِنْ ريشةٍ بصفاءِ فكري

أبحرتُ في بحر الولا

بهواي وقت طلوع فجري

وسفيتي حبي وصا

ريها اليقين عليه تجري

قد كان بحر بني النبي

وبحرهم لا شك بحري

تجدد الولاء

ولأنَّ الشاعر لسان قومه ومعتقده فلا بُدَّ أنْ يسطر عقائده بحروفه كما كان شعراء الدعوة الأوائل وهم يقاتلون بلسانهم هاهم أنصار العقيدة امتدادٌ لهذا النبع في صف الدفاع وإظهار الولاء الذي يستوجب التأكيد على البراءة من أعدائهم…

يقول الشيخ في قصيدته “الإكسير”

هاك حبي يشدو لكم بالتولي

ولساني مِلءُ المدى وزنودي

والتَّبرِّي مِنَ العدوِّ اللدودِ

بل وحتى لو كان غير لدودِ

يالحبِّ خُلِقْتُ كي أحتويه

وهو حُبٌّ سامٍ بغير حدودِ

وعلى أخمصيه آلهةُ الحبِّ

تُرى بين ركعٍ وسجودِ

وبراءٌ مِنَ العدوِّ وهيهات

تلاقٍ لشاكر بجحودِ

لو بأعضاي ذرّةٌ لم تُبرأْ

مِنْ عداكم إذًا لخنت عهودي

ووريدي لَوْ فيه مِنْ ذاك شيٌ

لتبرا كلَّيْ أنا مِنْ وريدي

صفاتهم النورانية

بالكثير مِنْ العمق الدلالي لمفردات الفلسفة والصوفية والعرفانية تتجلل معجم ألفاظ الشعر الولائي لحظة الاستدلال على صفات المعصومين عليهم السلام ونجد هذا جليًا في تجربة شاعرنا الشيخ في قوله:

يا روح أحمد يالطف الإله بنا

يارحمة الله يا إسلامُ يانُذُرُ

ياروح أحمد يا إكسير عالمنا

يا منتهى القدس ياقرآن يا طهُرُ

يا نفحة العرش تسري في الوجود سنا

تنسابُ في مُهج الدنيا وتنحسرُ

ويا صلاةَ بها العرش استوى وبه

الكرسيُّ واللوح والقرآن والقَدَرُ

تجليات مظاهر العظمة في صفاتهم:

علاقة الشاعر الولائي بالمعصومين علاقة انجذاب خاص لتعلق مخصوص في جذبات صفاتهم وذواتهم حيث يخلع الشاعر على الممدوح صفات العلو والقداسة وما راش مِنْ كرامات وظهرت مِنْ معجزات تعبر عن قرآنٍ ناطق بحقائق الدين وحدائق الإنسانية:

يقول في نصه “راهب آل محمد”

كان سِرًّا فيما وراء المعاني

وعن الحدس قد طواه الغمورُ

سيدٌ،عالم، حكيم، حليمٌ

حامدٌ، راهبٌ، شكورٌ، صبورٌ

شفتاه القرآن والقلبُ وحىُ

الله والعين بيتُهُ المعمورُ

هو في كفّه الوجود أسيرٌ

إي وربي له الوجودُ أسيرُ

نفحات قرآنية..

ومِنْ رشحات الشعر الولائي أنه يتكئ على النص القرآني كمصدرٍ فنجد التناص القرآني بكلِّ أشكاله..

أ – التضمين آيات القرآن الكريم:

يقول الشيخ آل زرع ” دنت الساعة “

صَرَخَ الوحيُ على سمع المدى

” دنتِ الساعة وانشق القمرْ “

ب – الاقتباس.. إما تصريحًا أو تلميحًا..

يقول الشيخ آل زرع في قصيدة ” كريم آل البيت “

“يثبتُ الله ما يشاء ويمحو

بكَ ما قد تنوء منها الظهورُ

وفيها يقول أيضًا:

لك في الحشر جَنَّةٌ وحريرٌ

وقصورٌ بها شرابٌ طهورٌ

وقوارير فضةٍ قَدَّروها

وعليكم تطوف وُلْدٌ وحورُ

وكما لاحظنا في محاولة استداء الموضوعات والاغراض الشعرية في النص الولائي كما يقال وإن صح التعبير ففهرسة العناوين قد لا تنتهي وتطول القائمة وهي هنا لمجرد التمثيل لا الحصر، وهناك الكثير الكثير مما ازدحمت به القصيدة الولائية والتي تَلَبَّسها شعر الشيخ عبد الكريم آل زرع بكل تمكن واحتراف..

وفي الأخير أدعو المهتمين بالشأن الأدبي القطيفي أن يقربوا عدسة البحث حول هذه الشخصية الثرة وهذا الكنز الشعري المتدفق عذوبةً وعمقًا.

كما يروق لي أن أسدل ستار هذه اللمحة ببعض أبيات سطرها الشاعر السيد أحمد الماجد في سماحة الشيخ آل زرع:

 ياهيبة القاموس متكئًا على

الألفاظ، أوْلَم للبديعِ ودَلَّلهْ

عبد الكريم وتلك أسنح فرصة

للما وراء لكي أعيد تنزُّلَهْ

عبد الكريم ولم أعد مِنْ غار

أنفاسي فلاسمك مبعثانِ وَبَسْملَهْ

ويداك أَنْصعُ غربتين هما هنا

وهناك، إِنَّ الشعر يعرِفُ فَيْصَلهْ

لَكَ أنْ تكون حمامة ولك الخيار

لأن تعود مَجرّةً مُسْتعْجَلَةْ

——

[1]أعشاش الملائكة – جاسم الصحيح – ص10.

[2] – وسائل الشيعة ج 11.

[3] – قراءة ثقافية وإضمامة أدبية حول شعر الشيخ عبد الكريم آل زرع – فريد النمر – 18/8/1439هـ

[4] – انظر مجلة الخط – العدد (70) – السنة السادسة 1438هـ- 2017م – حاوره سلمان العيد.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×