رحيل دون وداع
جمال عبد الكريم آل حمود
كثيرة أصبحت الغصص في حياتنا بعد الجائحة المريرة التي عصفت بنا كما سائر دول العالم. ولكن أشدها قسوة هو ذلك الفقد الموجع للأهل والأصدقاء، إذ لا يمر بنا وقت من أوقات الليل والنهار دون أن نفجع بأحدهم، حتى مواقع التواصل الاجتماعي غدت تعج بأخبار الوفيات؛ ولا نملك إلا أن نعد ونحسب أعداد المتوفين، وبدا الأمر وكأننا اعتدنا الفقد.
فقْدٌ قاسٍ إذ لا يمكن معه تشييع الجثامين من قبل الأحبة والأصدقاء أو تقديم واجب العزاء إلا من خلف شاشة جوال أو حاسوب وفي أحسن الأحوال عبر الاتصال الهاتفي.
قدر الله وما شاء فعل، إذ تعرضت يوم الثلاثاء الفائت ليل الأربعاء ومع دخول وقت صلاة المغرب إلى جلطة قلبية أحسست بأعراضها وأنا أقف على مصلاي استعداداً لتكبيرة الإحرام التي لم أتمكن من أدائها ما دفع بإبني حسين وزوجتي إلى الذهاب بي إلى المستشفى.
ولأنني سبق لي وأن تعرضت لأكثر من جلطة وكانت الأخيرة منها قوية استدعت عمل قسطرة وتركيب دعامات وهو أمر يجعل من عمل القسطرة مرة أخرى أمر غير ممكن ليكون الحل هو بإجراء عملية جراحة القلب المفتوح، وهذا ما كنت أحاول تجنبه قدر الإمكان.
وفعلاً وفور وصولنا إلى المستشفى أبدى قسم الطواريء إهتماماً كبيراً بحالتي من جهة الإسراع في الكشف المبدئي وعمل الفحوصات ونقلي إلى قسم الجراحة حيث على الفور باشر الأطباء متابعة حالتي.
التشخيص الأولي للأطباء الذي لم يخبروني به ولكني علمته من خلال لمحات وجوههم وحديثهم مع بعضهم البعض باللغة الإنجليزية واستخدام مصطلحات ومفردات كنت قد عرفتها من خلال تعرضي للجلطة الأخيرة ودخولي لمركز البابطين، لقد بات في حكم المؤكد عندي أنها جلطة ولم يكن الأمر مخيفاً لي لأنني ومن خلال الأعراض كنت أدرك أنها جلطة وتم التعامل معها بسرعة ما حد من احتمال احتياج لعملية قسطرة وهو أمر متعذر وبالتالي عدم احتياج عملية قلب مفتوح، وبعد أربع ساعات ونصف حضر الأطباء ليقرروا إدخالي المستشفى وبقائي تحت الملاحظة لمدة ٧٢ ساعة كقرار مبدئي يقرر بعدها وعلى ضوء ما تسفر عنه نتائج التحاليل إما السماح بمغادرة المستشفى أو بقائي تحت العلاج لفترة أطول، لكن وما إن انتهى الطبيب المختص من كلامه حتى بادرته بقراري الرفض بدخول المستشفى كونها مركز علاج رئيسي للمصابين بفايروس كورونا، وهو ما دفع بإبني لسؤال الطبيب هل تضمن عدم تعرض والدي للإصابة بفيروس كورونا سيما وأنني اعاني من ضعف في المناعة وصعوبة في التنفس وحالات إختناق نتيجة إجهاد في عضلات القلب، فأجاب الطبيب بنفي ضمان عدم إصابتي بالفيروس. فأصريت على مغادرة المستشفى وعلى مسؤوليتي الشخصية. وبعد أخذ ورد بين الأطباء وهم طبيب القلب وطبيب الباطنية وطبيب الجراحة وافقوا على أن أخرج بعد توقيعي على النموذج الخاص بالخروج على مسؤوليتي مع تعهدي بالتقيد بالشروط والتعليمات التي زودوني بها، فتعهدت لهم بذلك.
وكان من ضمن التوصيات والتي شدد عليها الأطباء مجتمعين الطلب مني عدم بذل أي جهد مهما كان صغيراً مع التأكيد والتشديد على إبني وزوجتي بعدم بقائي وحيداً ولو لدقائق أي البقاء تحت أعينهم لحين مراجعتي لعيادة القلب ومقابلة الطبيب بعد أخذ العلاج المقرر والمدة المقررة.
هذا الامر وهذا الظرف منعاني من أمور كثيرة وفرض علي عزلة لم أعتدها ونمط عيش لا أرغبه إذ أن من ضمن ما طلبه الأطباء من إبني وزوجتي محاولة إبقاء الهاتف الجوال بعيداً عن متناول يدي قدر المستطاع تجنباً لتعرضي لنوبات زعل أو تلقي أخباراً قد تؤدي إلى سوء حالتي. عزلة منعتني من مشاركة أهل وأحباب وأصدقاء فقدوا أفراد من أسرهم، وعدم تمكني من مواساتهم في أحبة فقدوهم .
نعم هو أمر مؤلم ولكن الأمر الذي كان أكثر إيلاماً وأشد وقعاً على نفسي كان رحيل زوج أختي السيد عباس باقر الشخص (أبو حسن) الذي رحل دون أن أتمكن من إلقاء نظرة الوداع لوجهه النير ودون حضور تشييع جثمانه الطاهر وقراءة سورة الفاتحة على قبره. السيد عباس لم يكن زوج أخت أو نسيب فقط لقد كان أكثر من ذلك وأكبر، كان إنساناً يملؤ القلب والعين بدماثة خلقه وحسن معشره وندى كفه وكرمه وصلته لرحمه وتواصله مع جميع أصدقائه الذين لم ينقطع عنهم حتى وإن بعدت المسافات بينهم. وأنا إن شئت أن أعدد هنا ميزات وصفات فقيدنا الكبير وخصاله فلن يسع المقام ولن تسمح دموعي لي بالاسترسال.
لكن وإن كنت حرمت من توديعه فعزائي وعزاؤنا جميعاً أنه رحل نقياً طاهراً محباً ومحبوباً، رحل ليكون بجوار آبائه وأجداده الطاهرين، عليه وعليهم رحمات الله ورضوانه. عظم الله أجرنا بفقيدنا وجبر كسرنا وألهمنا الصبر والتصبر، وكذا كل من فقد عزيز ربط الله على قلوب الجميع وألهمهم الصبر والسلوان.
إنا لله وأنا إليه راجعون