[موروث] الغوص في سيرةٍ ناقصة.. يوش ودامن يا سِنيار الغوص تفرّقوا

حسن دعبل

على هذا النداء الداوي أخذت الشركة جدي، وما نسميه مُتحنّنة “يدّي”. أخذته من سنيار الغوص القريبة من دوحة هيراته، والذي سُمي لا حقاً بمينائها النفطي.
صاح بهم المنادي من مكبرات الصوت عن قرب:

يا سِنيار الغوص تفرّقوا، والتحقوا بنا. لكم زادكم، ومنامكم، من غير قيد سجلات وتسگام.

رمى دَيّينه، و افطامه، وشملوله الأسود، وسار مع الجموع. سارت الجموع بعد أن “يدّفوا” خشبهم.
جمعوهم في خيامٍ منصوبة، وقسّموهم حسب أعمارهم، وأبدانهم، وسحناتهم البحرية.
سنةٌ واحدة بألف سنة مما يعدّونه أهل الشركة، قالها، وبعدها عاد إلى سِيفه. إشترى بما فاضت بها يمينه من جنيهاتهم الغير ذهبية، جالبوت، وقدور لطبخ عيش عاشور، ومواعين للأكل.

وعاد به الحنين إلى سِنياره ويَزوته.

تغيّرت الأحوال والغوص بعد صياح المنادي في الهيرات والطرقات، وفاقة اليد. ولأن القَدر يتربص ويخاتل. خاتل “يدّي”، وهو يخطف شراع جالبوته، ويُخاير مُدّبراً. باغته حبل “الدامن” في البحر قبل “اليوش”، ودارت به منيّته في هيراته التي يغوص بها، وغاص “تبّته” الأبدية، والأخيرة.

أبي أيضاً ورث من أبيه تلك النّزعة البحرية، فلم يلتحق بشركة النفط، إلاّ يوماً واحداً. ورث من أبيه جالبوته، وعباراته الآمرة، وخطف إلى الهيرات القريبة من “صفاري” النفط. وكلما إقترب منها ضحك، وقفز إلى أعماق البحر بجسده، وحريته. تمادى في غوصه، فخَطف، وغنّى، مُتنعّماً بعذاباته وفقره، ومتذلّلاً بحرّيته. ضاحكاً منشرحاً، وشارحاً لهيرات “غَيص الدّومي” اليومية، لِمن تخلّف معه عن الرّكب وجنيهات الشركة. رمى كلّ ما جمعه من محّار الغوص بعد أن باع إرثه من جالبوت الأب، وعلّگ ويدّف “بانوشه” الصغير على السِّيف، وتحسر بفاقة اليد والفقر، ونام صبحه الأخير من غير يقطةٍ وفراق.

تلك هي نهاية الغوص في سيرةٍ ناقصة. لكن السيرة لاذعة كما حفظتها الأفئدة بعد غياب الغوص ومحاره، وبنبرة جمرية، ولسان ملاّ عطية الجمري، داوية في أسياف البنادر، هاجياً منابع النفط:

الغوص

قال الغوص سمعوا ابفضلي البادي
ترى اللي بالخدامه كلهم أولادي
أنا ربيتهم من مهجة أفادي
نحلتي أجسادهم يا منبع القاره
تساگيم وعطا وأسلاف تتوفر
ألف والفين تسگام الولد وأكثر
ولو چال الگيض يستوحش عليها البر
وتطلع قاصدتني ابخشب سفاره
ويخبصون البحر من قبل ميحانه
النهام ايحدي وشبان سكرانه
وتلقى النوخذا كامر على الكانه
امكيف بالقدو لو يشرب اجگاره

منابع النفط

قالت لا تطول هالحچي واتزود
تفخر بالنقص يا بو العبيد السود
تطعمهم حويل التمر يسرب دود
ياكل والدبغ يجري من اكتاره
واسلاف وتساگيم افخرت بيها
دبطل ولك لا تحچي ابطواريها
عشرين وعشر بالجبر تنطيها
ورفيجك ما يحصل قيمة أوزاره
ولا يحتاج أنا احچي اتشوف خاص وعام
شبعانه الخلق كل نص شهر تسگام
بالقانون تخدم مو شغل ظلاّم
كم عازب تزوج وانبنت داره
كم تاجر كسرته وراحت أمواله
وظل محتار يطلب بَلغة اعياله
يأمل كل سنة تتراجع أحواله
وكل عام اليجي اتطگه ابدوباره

هجاء الجمري لاذعاً بسطوة مفردته المحكية في فضائل الغوص، وذم منابع النفط وشركاتها، وهي تستهوي، وتميل بقلوب بحارة الغوص، ويزواته، وتخدش بحياء المفردة الجامحة في الذّم، وتصعّد بفضائلها المدح والكرم لإرثٍ ضارب في الوجدان، وسنن العيش في الوجود، وناموسه لمجتمعاتٍ بحرية؛ وبرائية الهجاء بين الفضيلة والذّم والنكران، حفظت القلوب مُتحسّرة تلك المسجالة الشعرية، ومناظرتها المحكية لسيرة حياة الغوص وأهله، قبل التحولات الكبرى لِما بعد النفط.

• الصور بعدسة هارولد كورسيني Harlod Corsini (28 أغسطس 1919-1 يناير 2008) ، مصوراً أمريكياً ولد لمهاجرين إيطاليين في مدينة نيويورك، وبدأ حياته المهنية هناك كصحفي حر. وفي عام 1943م انضم إلى مشروع وثائقي لشركة (Standard oil). الصور لعمال الشركة عام 1947م، في ذهابهم وعودتهم بحراً من راس تنورة إلى بندر الزور (جزيرة تاروت) قبل المواصلات البرية، وتعود الصور لأرشيف جامعة لويڤيل. University of Louisville photographic archives.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×