الانتقاء ومبدأ الأمانة

جاسم المشرَّف

كثيراً ما يَضرِب الأسلوب الانتقائي مبدأ الأمانة في الصميم من حيث نشعر أو لا نشعر، وغالباً ما تغيب الموضوعية، لغايات لا تخفى على ذي لُب وبصيرة.

أنكر الله تعالى على (أهل الكتاب) إبداء بعض أحكامه وإخفاء الكثير منها؛ رعاية لمصالحهم. وما هذا السلوك المشين عن أمتنا ببعيد،

وإليك بعض النماذج:

في التاريخ ما أكثر الأحداث التي أغمض عنها المؤرخ عينيه إرضاء لمن استكتبه، وتجنباً لغضب هذا أو كسب رضا ذاك، أو استجابة لهوى وانسباقاً وراء حمية.

وتظهر حالة الانتقاء المقيت لدى هؤلاء الذين يختارون مواقف وخطابات من التاريخ الإسلامي ويستقطعوها من سياقها ويقدموها للعالم بأنها تمثل مبادئ الدين وقيمة..ليس هذا ديننا بل الصورة التي يريد هؤلاء أن يظهرون الإسلام بها.

 وفي القوانين والنظم المرتبطة بحقوق الناس يعرض هذا المسؤول كشحاً عما يُعين الناس  من مواد، أو استثناءات، ويتفنن فيما يُدينهم.

 وفي عالم الأبحاث العلمية والطبية تُخفى بعض الحقائق رعاية لمصالح بعض الشركات العملاقة أو بعض الدول المتنفذة

 وهكذا تسيس حياة الناس من أكثر من مؤسسة وأخرى كلٌّ بما يخدم مصالحة، إلا أن الداهية الدهياء تتمثل في:

 انتقاء رجل الدين للجوانب التي يفقهها وللأبحاث التي يجيدها وتجاهله إلى درجة التنكر بجعل “المنكر ما أنكروه والباطل ما جهلوه” كما يقول امير المؤمنين أعطى صورة مجتزأة عن الدين وأغفل زوايا مشرقة تعطي للحياة معنى فيما لو كانت متاحة للناس.

 انتقاء رجل الدين لمسائل احتياطية وتعميمها على بسطاء الناس وكأنها العقيدة الثابتة التي زوال لها ولا اضمحلال أدخل المكلفين في حرج لا يطاق، وما ذاك إلا للمزاج الخاص لهذا العالم أو لمصالح رآها بنظره القاصر.

 انتقاء قيم ومبادئ تنسجم مع مفهوم التقية الذي توسع فيه هذا العالم أو تلك الجهة بإفراط لا ينسجم مع معطيات ومتطلبات المرحلة أسدل الستار في خطابنا الديني على منظومة من القيم أضحت بفعل إهمالها غريبة على الناس ونائية عن حياتهم.

 هذا الانتقاء المفرط أدخلنا في أزمة وضيق خيارات في قراراتنا ونحن أبناء دين ينادي آناء الليل وأطراف النهار:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، و(ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج)، والعديد من النصوص التي لا يلتقي منهج العديد ممن وضعوا أنفسهم لهداية الناس مع مقاصدها ودلالاتها!!.

 “ما ضاق على فقيه مخرج” تحضر لدى بعضهم في الحج، أو في تبرير تقصيره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو باب النكاح وغيره، أما في الخمس تضيق (الأرض بما رحُبت) على هذا المتفقه ويتعامى ولا يجد مخرجاً يخفف عن ذلك المكلف الذي أثقلته الحياة بمسؤولياتها،(ما لكم كيف تحكمون)؟!.

أين الأمانة عند هؤلاء وهؤلاء؟

وتطال ظاهرة الانتقاء منظومة القيم الدينية فهنا يتمظهر بعضهم بالغيرة على الدين وحماية الشريعة ومحاربة الضلال فيضع نفسه (شرطي السماء)؛ليضرب صميم قيم الدين من حسن الظن، وحمل المؤمن على محامل الخير، والتواصل، والتوادد والتعاطف بين المؤمنين، والتسامح، والعفو، والصفح، والكثير الكثير

وباسم الدين يقع في عظائم الأمور وهو ينادي بالويل والثبور على كل مَن يزاحمه،أو يتقاطع مع مصالحه أو من لديه تصفية حساب معه،مُغلفاً حقده أو عُقَده بغلاف الدين، وعلامة ذلك تعاميه وصمته عما هو أخطر وأفضع في نظر الدين مما واجهه وتعرض له، تلك أخلاق أرباب الفتن ومنتجوها، الذين لا تقوم لهم قائمة إلا على أحطابها ورمادها!.

وأخيراً كم يوجعنا أن يتظاهر بعضهم أنه من طلاب شهيد العبقرية المتفردة والفكر المتجدد، الذي نحيا ذكرى استشهاده الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) وهو أبعد ما يكون عن رؤيته وفكره ومنهجه وورعه وتقواه.

ولا أريد أن أتداعى أكثر ففي القلب ما لو ذُكِرَ لملأ العالم كآبة ووجعاً.

و(تِلكَ شَقشَقةٌ هَدَرَت ثُمَّ قَرَّت)

والسلام.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×