[6] سِتْر.. وثيقة هدم الهيكل

محمد الماجد

  

نص أوّل:

“بطن منَّة الرابعة أُحيطت بأفلاك الدلال… كل رأس شهر يسكب على بطنها الحلوى والحمص واللوز وريالات الفضة، ويُوزع على القاصي والداني… كل جمعة تدور أقراص الخبز الحار، سبعاً على قُبَّة تلك البطن، ويُطعم فقراء الحرم… حتى تمخضت عن أنثى” طريق الحرير/134

نص ثانٍ:

“تصاعدت الأنغام الخليجية مختلطة باللبنانية والمصرية من المركب الفرعوني على ضفة النيل، تصدّرت القاعة الكبرى منصة صغيرة، حيث جلس محسن في بذلته السموكن الفاخرة إلى جوار مريم في ثوب عرسها البسيط، عن يمينها كانت ساحة الرقص والفرقة، إيهاب توفيق يشعل حماسة الفتيات” ستر/66

من يصدق بأن هذين النصَّين لكاتب واحد؟!

قليلة هي المنعطفات الحادة في حياة الكتاب، ويبدو أن هذا المنعطف هو أحدها، بدأت القصة معي في بيروت 2007 أثناء اعدادي لإصداري الشعري الأول (مسند الرمل)، كنت عادة ما أقوم بمراجعة بروفة الناشر في مقهى ستاربكس الواقع في شارع الحمراء، في قبو المقهى بالتحديد، حيث يحتل طلبة وطالبات الجامعة الأمريكية كل شبر فيه، وكنت حريصاً على تقليدهم في كل شيء بدأ من حجم اللابتوب إلى عناوين الكتب وألوان المسودّات وحتى طريقة الجلوس، وفيما عدا اللباس الذي ليس لي سبيل للتخفف من سطوته، أتوقع أنني قمت بعمل يستحق الثناء، وبحسرة أتذكر الآن تلك الطاولة الركنية المنفردة التي كنت أخلو بها للتلصص على سكان القبو، الخلوة التي تحولت مع الوقت إلى وظيفة كانت سبباً لتأخري في تسليم البروفة للناشر وحنقه عليَّ، وبالرغم من أنني تحدثت مع الناشر عن فوائد مثل تلك الخلوات المجانية لعابر ليل مثلي، إلى أنني أيضاً توقعت منه ردة فعل تشبه تلك التي لرجل بلا قلب، وهي الصفة التي تحولت منذ زمن بعيد إلى إرث مشترك بين الناشرين يقاتلون جميعاً من أجل الحفاظ عليه، وفي الواقع، لم يكن القبو وحده السبب وراء خيبة الناشر في شاعر مستجد مثلي، حيث كنت أخفي سبباً آخر: مكتبة أنطوان، ففي المرة الوحيدة التي خرجت فيها من القبو لاستكشاف الفضاء المحيط بــ ستاربكس فوجئت بوجود المكتبة في الجوار فقررت زيارتها، ومنذ ذلك الحين صارت هي وظيفتي الثانية بعد القبو، وأتذكر جيداً تلك اللحظة التي اندفعت فيها لدخول المكتبة لأول مرة فوقعت عيني مباشرة على عنوان لرواية جديدة لرجاء عالم اسمها (سِتْر)، حيث ذهبت من فوري لالتقاطها، فأنا لا أتحمّل أن أرى عملاً لرجاء عالم على الرف، أمسكت بالرواية وكأنني أمسك بجائزة، وما إن تصفحتها حتى عدت للتأكد من اسم كاتبة الرواية، كررت ذلك عدة مرات ثم صرخت: فعلتها رجاء عالم!!

ساعتها كانت الرواية قد صدرت منذ سنتين دون أن أعلم فأنا لست من هواة متابعة قوائم دور النشر من الإصدارات الحديثة، فقد كنت وما زلت أتمتع بكَسَل يجعلني أعتقد بأن الكتاب الجيد سوف يطرق بابي دونما حاجة مني لرؤية ناشر ذهاني وبلا قلب، كَسَل كان يمدني بعناوين لكتب أنتقيها انتقاءً دون أدنى رغبة مني في زيادة رفوف مكتبتي الصغيرة، حيث سأكون أكثر قدرة – من مكاني على المكتب – على ملاحظة العناوين وتمييزها، أما المكتبة الكبيرة فلن تمنحني مثل ذلك الامتياز وسأنتهي معها كما انتهى الكثيرون إلى العمى واختلاط الأسماء والعناوين في أذهانهم، وبالرغم من زهدي هذا إلا أنني فوجئت بحيازتي لكل إصدارات رجاء السابقة: جنيات لار، مسرى يا رقيب، سيدي وحدانه، خاتم، حبى ..الخ، كلها تقريباً، وكنت استخدمها كلّها لغرض الإحماء وبالذات في الوقت الذي تكون فيه لياقتي على الكتابة قد ضعفت، أو أصبحت تعاني من الوهن، كنت أعود لأيٍّ منها دون تحديد، وأفتحه كما يفتح القَدَرُ ذراعيه لبخور منجّم، فربما قرأت الربع ألأخير من (حُبَّى) مثلاً ثم عدت للربع الأول، وقفزت من هناك إلى قلب (خاتم)، ومنه إلى ذيل (مسرى يا رقيب) دون أدنى التفات مني لـــ (المعنى) في ما تكتب رجاء، كانت تأخذني سورة اللغة وحسب، الصورة المكثفة فيما تكتب وحسب، وبهذا المعنى دائما ما كنت أنظر إلى رجاء كشاعرة من طراز نادر، وليس كواحدة من أعظم الروائيات فقط، وإن كان هذا الادعاء سيثير حفيظة المناهج النقدية المعنية بقوالب الأشكال وتدابير المعنى دون أدنى محاولة منها للتنبّه لما هو أعمق وأسمى، عموماً هكذا تعاملت وما زلت مع الكتّاب من طراز رجاء، وهكذا تعودت أن تعيدني متاهتها اللغوية في كل مرة أقرأها إلى المكان الذي تخيلت أنني غادرته للتو، مسالك وأنفاق لا أدري كيف تشقّها، ولا كيف تضيء عتمتها بقناديل المجاز: حيتان تخرج من بين سطورها، فتيات في هيئات خيول مجنحة، أحجار تتفصد دماً، ريح تتلبّس الحيوان والبشر ….، فإما خرج القارئ لها من برزخها هذا حتى قبل أن يبدأ، مخنوقاً بسباب وشتائم، وإما دخلَ وأغلق عليه الباب وتمنّى أن لا يعود إلى هذا العالم.

هنا أتذكر موقفاً مع أحدهم في إحدى دورات معرض الكتاب في المنامة، وكان يمسك برواية لرجاء يريد أن يشتريها، وأحب أن يسألني عن رأيي في الكاتبة قبل أن يفعل، سألني مصادفة ودون أن يعرفني حتى، فقلت له ليس لدي رأي محدد ولكن إذا قررت أخذها فلا تقع في يد زوجتك لأنها ستوظفها غالباً في أهداف (سامية) تتعلق بالسّحر وجلب المحبة وطريقة عمل النجوم، ضحك،  ثم قلت له: هل تحب  البحر؟، فقال: لدي فضية محلية في سباحة 200 متر فراشة، قلت له هذا جيد، إذا كنت تطمع في قطع المحيط من الضفة إلى الضفة فلا تقرأ رجاء عالم، لأنه لا توجد ضفاف ولا موانئ في محيطها الأزرق سوى تلك التي تغص بصفارات التايفون ومكائن الديزل والحيتان المسلوسة لا الفراشات من أمثالك، ضفاف تمتد مثل حلزون ضخم من الرمال المتحركة فيما الغبار المداري يأكل أطرافها، والمشكلة أنه لا يمكنك أيضاً الإبحار معها على طريقة سفينة ستارز اون بورد، لأنه لا يوجد لديها مكان للتسلية، تبقّى أمامك احتمال واحد فقط: أن تقبل بلعب دور العجوز سانتياغو في رائعة همنجواي (الشيخ والبحر) مع كل ما يتطلبه ذلك من جلد وصبر وخبرة وعدم يأس !. عجوز مجالد وشباك منهوبة على الدوام، وأخبرته بنبرة (قلقة) عن حرب العجوز مع أسماك القرش، وخسارته لمعاونه الوحيد، تمنيت معها لو أنه صرف النظر عن تفكيره الجامح، خاصة وأن قروش همنجواي لن تكون أكثر من نزهة مقارنة بالمصير الذي ينتظره إذا ما قرر الولوج إلى عالم تلك الساحرة المكية دون أي رصيد من الرياضات الروحية، صف يوغا واحد على الأقل كان سيساعده على الإقلاع، غير أنه لم ينتظر ولم يكن لديه وقت لليوغا، اشترى الرواية في نهاية الأمر ثم غادر إلى سبيله، اما الان وعندما أعود لكل هذا النضال الذي بذلته معه من أجل التعريف بأدب رجاء عالم، تمنيت لو عاد وسألني ثانية، لكنت نصحته مباشرة بقراءة رواية (سِتْر) دون أن يكلفني هذه المرافعة الطويلة ودون أن أعرض حياته للخطر. ولكني غير نادم أبداً، على الأقل بذلت جهداً وأجريت معه حساباً سريعاً للمخاطر، ووضعته أمام احتمالات الخسارة المؤلمة، ثم أبديت له رأيي وتعمدت ألا أغلق الخيارات أمامه، الممارسة التي لن يجد لها مثيلاً بين بطاركة التنوير ممن يحرصون على التواجد هنا بحثاً عن رعايات حصرية لأمثاله، وكأنهم معركة تبحث عن طبول، أشفقت عليه من مصير الطبل، قلت من الأفضل له أن يشق طريقه بنفسه، خاصة وأن الكثير من جلود تلك الطبول قد تفسخت فيما البطاركة كانوا ينفخون النار من تحتها برئات مثقوبة.

أعود لمكتبة أنطوان:

مازال صدى صرختي لم يجف من وجوه مرتادي المكتبة بعد: فعلتها رجاء عالم!، لم تبدو لي رجاء وفي أيٍّ من اصدارتها السابقة لـــــ (سِتْر) أنها كانت تعد لثورة أو انقلاب، كانت وفيّةً لواقعيتها السحرية المضفورة بخيوط رفيعة من الفانتازيا، فكيف ذهبت في (سِتْر) إلى التورط في سرد اليوميات والركض وراء الروزنامة، كانت نقطة الحبر تسقط من محبرتها على الورقة ثم تنتشر مثل غيمة زرقاء وكأنها تسقط في كأس ماء، والآن أصبحت تسقط بحساب وعبر سن معدني دقيق، كيف سيتسنى لي اذاً – بعد كل هذه الأمومة الروائية التي امتدت لسنوات – أن أكسر أسيجة الدخان والكثافة التي ضربتها حولي لأخرج منها إلى أرض مشمسة، كيف لي أن أنزل من مبيت جدِها، وأكفَّ عن التجوال في حواري مكة القديمة، وأن أمارس عادات جديدة مثل قطع تذكرة لدار سينما، أو الجلوس في بهو فندق، وأن أقوم بعمل الإجراءات ذاتها التي يقوم بها كل أحد عندما يريد أن يشاهد فلم أو يحجز غرفة!!، والأهم بالنسبة لي: كيف سأستبدل البخور الصنعاني بعطر باريسي، وحتى إذا فعلت، كيف سأستطيع مفارقة مقا، وسارح، ودمبوشي، والشيخ بيكوالي للإقامة مع محسن ، وريبيكا، وايهاب توفيق، باختصار اعتبرت (سِتْر) مثل طعنة في الظهر، كنت وصلت إلى قمة الجبل مع رجاء بعد عشرة إصدارات كاملة، وكنت متهيء تماماً لقفزة فليكس، ولم أتوقع يوماً أن أهوي على رقبتي لأبدأ التسلق من جديد!!.

لن يكون هذا التحول بالطبع عصيَّا في (الفهم الثقافي)، بل على العكس، فمن مبدأ الحرية مروراً بطبيعة العلاقة الهلامية بين أشكال الكتابة وليس انتهاء بعنواني التجريب ومتعة الاكتشاف، سيكون ذلك رائعاً، ودليلاً إضافياً على قدرة الانسان والكاتب على وجه الخصوص على ممارسة هوايته الأزلية في الانعتاق والتحرر. من هنا كانت رواية (سِتْر) عبارة عن (بيان رقم 1) وإعلان صارخ للخروج على النظام التي أنفقت رجاء سنين مديدة من عمرها في سبيل بناءه، كانت تهدم الهيكل، وكانت تستعين بمعاول وآلات غاية في الحداثة، أستطيع أن أرى الغبار يتناثر على ثيابي الآن، مع كل صفحه أطويها من (ستر)، مع كل سطر، مع كل رشّة عطر، مع كل ماركة، مع كل حفلة دي جي، مع كل مفردة جديدة لم أتعوّدها منها، ومع هذا كله، لا أستطيع أن أنكر على رجاء عالم ممارستها لحريتها لسبب أستطيع تفاديه بالرجوع إلى أيٍ من اصداراتها السحرانية السابقة وغسل يدي من آثار (ستر)، زيادة على أن ما قامت به ربما استدعى الكثير من التبجيل وليس التعنيف أو اللوم.

ولكن، ماذا عن (الفهم اللغوي) لما فعلته، أعرف أن هناك من سبقها لهذا، صاحب كتاب (اللا طمأنينة) فرناندو بيسوا على سبيل المثال، وكان ذلك البرتغالي يفعل ذلك بشكل متوازي أيضاً، بمعنى ممارسة عدة أساليب كتابية وبشكل متزامن، فقد كان يكتب بأربعة أسماء ولم يشك أحد في أنهم أربعة كتاب مختلفين، كل ذلك ودون أن يتنازل في أيٍّ من كتاباته عن الشرط الفني، ولعل بيسوا سهل عليَّ الأمر فرواية (سِتْر) بهذا المعنى هي لرجاء عالم أخرى ومختلفة إلى حد كبير، غير تلك التي كنا نعرفها إلى ما قبل ذلك الإصدار الثائر، وعلى عكس تقديري المبدئي الناقم والعاطفي الذي لازمني لحظة اكتشافي الأمر في مكتبة أنطوان ولمدة ليست بالقصيرة بعدها، حيث لم أجد مبرراً فنيَّاً لقيام رجاء عالم بهذا التحوّل، إلى أنني ألآن، ربما نظرت للموضوع بشكل مختلف مع الاعتراف بأنني ما زلت على مسافة تفصلني عن الاصطفاف تماماً إلى جانبها، نظري الجديد هذا يتعلق بالمأزق الذي يقع فيه أغلب المبدعين الكبار حين يولدون – كما هي حال رجاء – مكتملين مثل آلهة، شرهين مثل ثقب أسود، لا مرئيين ومتحررين من المادة، الأمر الذي لا يحتاجون معه لنجارة لغة يؤثثون بها منازلهم الأثيرية كما هي حاجة الآخرين، هذا هو قدرهم، ولكن قدرهم أيضاً أن يفاجئوا لاحقاً بأن هذه المنازل قد تحولت إلى سجون ولغتهم المتعالية إلى جائحة من التكرار الممل، وهو الاختبار المرير الذي سوف يدفع بهم إما إلى الاستسلام أو الثورة كما فعلت رجاء!!

ولكن ..

هل نحن بالفعل ذاهبون إما إلى الاستسلام أو الثورة؟

أم أن هناك طريقاً ثالثاً علينا جميعاً البحث عنه؟!  

30/8/2020 م  

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×