الوعظ في الزمن الصعب.. على هامش الاشتباك الأخير
محمد الشافعي
لا يهدف هذا المقال للانتصار لاحد الطرفين المشتبكين بعد خطاب لاحد الخطباء مؤخرا، بقدر ما هو محاولة لفهم ما الذي طرأ على المجتمع إلى حد أصبح فيه إصدار حكم قيمة على مظهر من المظاهر، مدعاة إلى الاصطفاف الحاد في سجال البيانات المتبادلة وحملات التضامن و التصعيد.
فلطالما كانت أحكام القيمة يطلقها الخطباء على منابرهم في إطار معالجتهم للقضايا الاجتماعية ضمن منظورهم ومعاييرهم. الخطيب المذكور احترف الخطابة منذ نحو أربعة عقود، ومادته الوعظية تحمل شحنة واسعة من الأحكام القيمية التي يصف بها الواقع، ويحذر بها من الممارسات التي لا يراها متسقة مع المعايير التي أنتجتها ثقافة سائدة محافظة.
وعلى سبيل المثال، يمكن الرجوع إلى كتابين له، احدهما معنون بـ “ولا تقربوا الزنا”، و الآخر بـ “الاستغفار أمان أهل الأرض” صدرا مطلع التسعينات، لنرى أن خطابه الأخير لا يزال ضمن إطار معالجاته تلك.
لكن الذي يبدو، أن المجتمع الذي كان يحتضن تلك الثقافة التي تقبل بالخطاب الوعظي وتؤمن بدور الفاعل الديني وصلاحيته لإصدار أحكام القيمة، قد انتقل من أفق المجتمع الذي يُعلي من قيم التطابق والتماهي مع خطاب واحد مهيمن، صنعه اتساق بين المنبر والمدرسة والبيت والحارة، إلى أفق جديد صنعته مؤسسات متعددة ومتباينة الخطاب.
لقد خضع المجتمع الذي طالما حاضر خطيبنا في جمهوره، إلى عملية تغيير تدريجية، وذلك مع انخراطه في موجة عاتية بمنابرها الفضائية والشبكية، التي تمتلك مؤسساتها التي يعيش من خلالها الناشئة تجارب منفصلة عن محيطها. ومن خلال الانخراط كذلك في نظام تعليم مختلف، له مخرجاته الخاصة عبر التعليم الخاص بمساريه الاعتيادي والدولي، و عبر تجربة ابتعاث انخرط من خلالها أعداد كبيرة في تجارب حياتية جعلت منهم ذواتاً تقيم فارقاً بينها وبين محيطها الذي نشأت فيه.
المحيط الذي احتوى جيلا تتلمذ أمام المنبر، تغير بدوره.. فقد انسحبت الحواري ونشأ جيل في أحياء حديثة لم تعد فضاءاتها الجغرافية تصنع روابط محددة وحاملة للثقافة السائدة. حتى الأسر وفي ظل شروط السكن المستقل، فقدت “التربية المشاعية” التي كان يمارسها “الجميع ضد الجميع”. تحول الأبناء إلى حق شخصي لوالديهم المباشرين، لا دور للعائلة الممتدة ولا للجيران ولا حتى للمعلم الذي تقلصت صلاحياته التربوية ولم يعد قادراً على توظيف مقولة “لكم ولد يقرا”.
ضمن فقدان المؤسسات المجتمعية بما فيها العائلة الممتدة، والمدرسة، والحارة، أدوارها التاريخية، وتحول التربية ونمط الحياة إلى شأن شخصي جداً، صعدت قيم جديدة في “المجتمع الجديد”، لعل أبرزها هي “الحرية الشخصية”، وحرية اختيار نمط الحياة المكتسب من المؤسسات الجديدة التي صعدت مع الشبكة و الفضائيات.
نمط الحياة والحرية الشخصية هو الذي جعل جموعاً من مخرجات “المجتمع الجديد” ومؤسساته ينخرطون في مظاهر الترفيه التي أطرتها مخرجات “الإعلام الجديد”، المقاهي ونزهة الحيوانات الأليفة والموسيقى، كلها تأتي متسقة مع النمط الجديد للحياة، وتحميها الحرية الشخصية.
بهذا المعنى، لم يعد الخطاب الديني ـ عند كثيرين ـ سوى خطاب مفارق للحظة، وعليه أن يلتزم القيم الصاعدة حديثاً، أي الخيارات الشخصية، بدلاً عن مواصلة التعامل معها على كونها “ضياعاً” أو تفسخاً أو انحرافاً، أو غيرها من أحكام القيمة.
في الوقت نفسه، لا يمكن أن نغفل عن أن حركة المجتمع ليست حركة جماعية، فالشرائح المختلفة لها استجابات مختلفة، مما يفسر بقاء جيوب محافظة انتظمت في هذا الاشتباك الأخير مدافعة عن الشيخ تحت شعار “كلنا معك”.
لا شك في أن دور الفاعل الديني صعب في هذه المرحلة، إذ لا يمكنه التخلي عن دوره التاريخي في حراسة القيم والمنظومة الأخلاقية للمجتمع. والتحدي الذي يبقى ماثلا أمامه، هو إعادة تموضعه من جديد في مجتمع تبدلت فيه مواقع القوى، وانتظمت مجموعة قيم جديدة، وأفرز مخرجات جديدة لا تعير اهتماما لأدواته ووسائله الوعظية التي ترى نفسها متجاوزة لها.
والأسئلة الصعبة التي عليه البحث عن إجابات لها؛ كيف سيضبط موجة خطابه لينسجم مع تردد مستقبلين فقدوا التردد الذي كان يألفه جيل مضى، جيل اعتاد الوعظ وأعطى للواعظ مشروعية. كيف سيواجه الفاعل الديني مؤسسات جديدة ذات بنية تحتية ضخمة تموضعت في الشبكة ويعيش الجيل الجديد من خلالها؟ كيف سيعيد ضبط إعدادات جيل التعليم الجديد ومخرجات “التربية الفردية” وأبناء الأحياء الحديثة ممن لا يعترفون بالروابط المشتركة المكونة لثقافة سائدة؟
هل خيار الإنكار الجماعي للتغيرات المطردة خيار؟ ربما، ولكن ستتمدد المقاهي ونزهات الحيوانات الأليفة، وستتولد مظاهر جديدة، عند من لا يستطيع الانقياد لخطاب وعظي بل ولا يفهمه لانعدام أرضية مشتركة بالحد الأدنى.
إنه التحدي الكبير..
أفضل ما قيل و ما كتب حتى الآن..
أطالب الكاتب (او المفكر بالأصح) بكتابة سلسلة بحثية نقدية و الاستطراد في تحليل هذه التغيرات التي نمر بها جميعاً. و جميع كتاب المنطقة طبعاً، ساحة النقاش و التحليل العقلاني مفتوحة للجميع..
الدين هو الدين والقيم هي القيم والحلال هو الحلال وكذلك الحرام هو الحرام لم يتغير شيء سوى رغبة البعض للتطبيع مع الحرام والتعايش معه والإيمان بأنه رأي آخر محترم يجب عدم تجريمه.
وهؤلاء البعض جلهم يختبئون خلف الكيبورد
ولهذا من كتب البيان كان جدير به إذا كان يؤمن إيمان كامل بأحقيته في رفض ما جاء على لسان الشيخ أن يصرح بأسمه لا أن يقف خلف جمع من أهالي صفوى.
أما ما ذهب إليه الكاتب من أن ما جاء به الشيخ هي ثقافة سائدة في وقت ما ..نعم كانت ثقافة بل قيم سائدة ولا زالت لأن منبعها القرآن والسنة الشريفة لم تأتي من الغرب والشرق بل من صميم ما أرشدنا إليه الله عزوجل في كتابه الكريم وما جاء عن الرسول الأعظم(ص) وأهل البيت (ع)..
وهذه القيم لا تتبدل مع الزمن
والحق أحق أن يتبع والسلام
ما يعجبني الكاتب الي يحاول يخفي توجهه بتصنع دور الوسطي الي ما يميل لأي طرف وتفضحه قسمات وجهه وفلتات لسانه
عزيزي الكاتب
المجتمع منذ أيام التسعينات محافظ ولازال طابعه محافظ و أعرافه والتزاماته الأساسية هي هي ما تغيرت
ما تغير فيه هو أن الناس عرفت الحدود بين التدين والتشدد، وأن الأقليات المتجردة من الالتزام بالدين صار لها منبر وهمي الكتروني يعبروا فيه عن آرائهم وتوجهاتهم فصار شكلهم الخارجي أكبر من واقعهم
المسألة ما لها علاقة بانحسار تأثير الخطاب الديني
فالخطاب الديني المعتدل لا زال مؤثر على الغالبية القصوى من المجتمع
لا أنكر ان الشيخ لم يوفق في بعض ما ذكره وأتفق معك أن بعض طرحه كان يعبر عن قيم ورؤى شخصية قابلة للأخذ والرد وهي برأيي غير مناسبة لطرح منبري يمثل الدين ويمثل أهل البيت عليهم السلام
في ذات الوقت أرفض استغلال الفرصة للنيل من الخطاب الديني ومحاولة تقزيمه وابعاده عن الساحة مقابل تلميع دعوات الحرية وترك المساحة للانحلال تحت دعوى التقبل والتعايش
تحياتي لك
محاولة غير ناجحة لتصوير المجتمع المتدين أقلية عبر التعبير عنه بـ(ـالجيوب المحافظة) وغير ذلك من الإيحاءات.
(إنه التحدي الكبير) هو تحدٍّ, لكنّه أقلّ شأنًا ممّا يُظنّ, ويراد له أن يُظنَ؛ تثبيطًا للمجتمع, وزرعًا لليأس في قلوبهم.
والمنتصر من كان مع الله تعالى وإن كان وحيدًا, وغيرُه مدعومٌ مِن هنا وهناك.
وقد جرّبنا الخوض وحدنا فانتصرنا ولم نتحرك شبرًا, فلن يؤثِّر تغيير الوجوه والخطط المرحلية شيئًا ما دمنا قد (خَبَزنا) الخطة الاستراتيجية.
تحياتي
المشكلة ان البعض ومنهم حراس الفضيله لم يقرأ جنبات المجتمعات الحديثييه
وان موسيقى التلقين أصبحت موسيقى ناشره لم تعد صالحه
لكي يعبر الجميع على طريق مأمون يجب ان تكون هناك بينيه وسطيه
ليبتعد الطرفين المتضادين عن التصادمات التي تغزو الساحه بين الحين والآخر
من أجمل ما قرأت حول تشخيص الهوة الحاصلة بين الخطاب الديني والحياة المدنية الجديدة وربما يستخلص منه التفكير في ايجاد الكيفية المناسبة للتوفيق بينهما ليستمع كل منهما للاخر بدل الاصطفاف الذي سيزيد فوهة الخلاف ويشعل عناد طرفا على الطرف الاخر