بعْث…!

د. منى فتحي خليل

مُنْذُ أمد بعِيد أودعت قَلَمي وكُتَيِّب أشعاري صُنْدُوق زَمَان الدُّنْيَا، وَجَهْلًا مِنِيِ ومِن يَأْسٍ حَسِبَت مِدَاد الْقَلَم قَدْ جَفَّ.

ولكنه بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ الْأَزْمَان اِنْبَعَث بَصيصَ إلْهَام ذَكَّرنِي بِالصُّنْدُوق؛ فَأَسْرَعَتُ إِلَى حُجرَة الإيداعِ أَجْرُّ مَعْي الأسَف.

نَفَضتُ رَمَاد الْعُقُود الَّذِي عَلَا الْمَكَان، وَكَسَا الصُّنْدُوق، الَّذِي بَدَا عَتِيقَا، قِدَمَ عُمْرِي؛ عمري الْبَرِيء، مَعَ ضفَائِر الشَّعْر، وَفُسْتَانِي ذَا الْخَصْر، وَحِذَاء أُسودُ بِإِبْزيم، وبالكرانيش كَانَ أبيضٌ جَوْرَبِي؛ شَرِيطٌ لِفِيلْم ٍ سينَمَائِي سَرِيعةٌ مَوْضُوعَاته، طُفولِيَّة مَضَاءَة بِسِرَاج الشَّمْس، وضوء الْقَمَر..!

وَكَانَت أَيْضًا ذِكْرَيَاتٌ مُلَوَّنَة، تَصُول وَتَجَول، وأنا أتوق إلى أن أتلقى بَيْنَ أَصَابِع الْيَمِين ورَاحِهَا قَلَمي، وَفِي غَمْرَة نَشْوَة خَيَالَات مَا وَلَّى، تَوَقَّف الشَّرِيط عنْدَما هَمَّمَتُ بِفَتْح الصُّنْدُوق. إذ أَسَفًا وَجدتُهُ بِإحْكَام مَغْلقاً، عِلَاوَة عَلَى كَلِمَة سِرٍ زِيَادَة فِي الْأَمَان.

هَكَذَا اِزْدَادَ الْأَمْر سُوءًا، فَأَيْنَ لِي الْآنَ بِمِفْتَاح الصُّنْدُوق..؟

هَيْهَآتَ أَنَّ أتذكر، فَسَعَيْتُ بَحْثًا فِي كُلِّ مَا يَكُون وَمَا كَانَ مِنْ فَسِيحِ أَرْجَاء وثَغْرَات الْمَكَان، وَلَمَّا أعياني الْبَحْث زَوْجًا مِنَ الْأيَّام، ثَالِثهُمْ فَكَّرَتُ فِي كَسْر الصُّنْدُوق وَمَا أُرِيد، ولَكِن مَاذَا فِي ذَلِكَ؟ هُوَ لَيْسَ بِجَديد فَقَدْ سَبق وآلت إِلَى غَيْر الْمَرْغُوب مِنْ زَيْنَة الدُنيا وَفِتْنَتهَا أمور، وَلَيْسَ لَنَا مَعَ دُّنْيَانا عَقَد أو وَثق.

رَبَّاهُ، رَبَّاهُ كَيْفَ نَسِيَتُ دُعَاء الضَّالَّة الَّذِي مَا خَذَلنِي تَارَةً فَهَمَمْتُ أْرددهُ مَرَّةً تِلْو مَرَّة بِصَوْت عَالٍ تارةً وَدَاخِل نَفْسي تَارَة، وَأهَمهمُ بَيْنَهُمَا ربِّ اُجْبُر بِخَاطِرِي، فَقَدْ اِشْتَقْت لِمُحَرِّر الْخَوَاطِر، بِحِبْره عَلَى صَفْحَات الْوَرَق، وَمَعَ صَمْت الْمَكَان بَعْدَ فَتْرَة لَا أدْرِي أَكَانَت فِي ثَبَّات النَّوْم أم الْيَقَظَة، اِنْتَبَهَتُ حِينَ أتاني هَاتِف بِصَوْته الرَّنَّان وَقَال: كَسْر الصُّنْدُوق ضُرٌ لِلْقَلْب وَكَفَى، اِبْحَثِي عَنْ مِفْتَاحكِ فِي الرأسِ وَكَفَى، أغمضتُ عَيْنَي وتعمقتُ فِي كَلِمَات الرِّسَالَة، حَتَّى جاءني التُّرْجُمَان، وَقَال: قَلْبُكِ هُوَ الصُّنْدُوق وَمِفْتَاحهُ الْعَقْل.

عَجَبًا أكانت تِلْكَ رُموز السِر! أحْدهُمَا فِي الصَّدْر يَخْفق، والآخر بِالْفِكْر يَعْلُوهُ رَأْس، وَلَمَّا أيقنتُ؛ بِكُلّ الْيُسْر اِنْفَتَح الصُّنْدُوق، فَمَا كَانَ أبدًا مُغْلَقَا، ظَهْر الكُتَيبب كَمَا كَانَ مُغلَّفا.

أما الْحَقِيقَة فَكَانَت سُطُور أبياتٍ بَاهِتَة، واِصْفِرَار مُعْظَم الْوَرَق، وبَدَا قَلَمي ذَابِلًا نَحِيلًا، وَالْحِبْر بِدَاخِله مِنَ الْمُؤَكِّد قَدْ يَبس، وَمَا إن تَنَاوَلَتهُ بِرِفْق حتى أبدى مُقَاوَمَةً وَنُفُوراً وَبِضَعفِ قُوته عَنْ يَدِي أَعرَضَ، فَأَعَدَّتُ الْكَرِة مَرَّةً تِلَوَّ مَرَّة وَبَعْدَ الْعِنَاد شَعُرَت بِهِ اِسْتَكَان، فَمَا اِنْتَظَرَت وَبِرِفْق أمسكته، وَبِقُوَّةٍ بَيْنَ رَاحَتي الْيَدَيْنِ دَلَكتهُ، أَمَلًا أن تعودَ لِحِبْره حَرَارَة الْحَيَاة، وَعَيْنَ الْقَلَم حَزِينَة تُطَالِعنِي فِي أَلَمٍ دُونَ جَهْر، إلى أن دَمِعَت بِخُرُوج أَوَّل قَطَرَة حِبْر إعلانًا عَنْ بِدْء الشِّفَاء، شِفَائي وإياه مِنَ الْمَرَض.

أَوْمَأ قَلَمِي إليَّ وَعَيْنهُ تَنْظُر فِي عَيْنِيَّ، وَبِصَوْت مَكْسُورٍ يَئِنّ قَال: الْآنَ تَذَكَّرَتِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ خَجَلًا أَن أطالعه بَلْ أغمضت الْجُفُون وَهَربَتُ بِكُلِّي إِلَى أعماق الْعُيُون.

نَعَمْ هُوَ عَلَى حَقّ فَكَيْفَ نَسِيَّته، وتَغَيَّبَت عَنْهُ وَلَمْ استوحش له طِيلَةُ هَذَا الْوَقْت، وَقَدْ كُنْت أحْتَاجَهُ لِسَطْر مَشَاعِرِيِّ كَلِمَات، كَيْفَ مَضَت دُونِهُ الْأيَّام وَمَرَّت السُنُون.

اسْتَطْرَد قَائِلًا: مَا ظَنّكِ لَوْ طَالَت عَلَى يوسف بِالصَّحْرَاء غَيَابةُ الْجُّب؟ او اِمْتَدَّ عَلَى يونس فِي ظُلْمَة بَطْن الْحُوت الْأَمَد؟ هُنَا فَتَحْتُ عُيُونِي الدَّامِعَة، وأردفت بِالرَّد: وَمَاذَا عَمَّا حَدَث لِخَلِيل الله مَعَ طُول زَمَانٍ أَمْضَاه فِي نَار لَمْ تَضُر؟ وَإن كَانَ سَعِيرهَا مُتَّقِداً، يَبْدُو أَنَّهُ اِقْتَنَع حَيْثُ أَرِدْف وَقَال: مَا أَوَّلَ كَلِمَة سَتَكْتُبِين؟

تَنَاوَلَتهُ وَفِي أولِ صَفْحةٍ مِنْ كِتَاب جَدِيد كَتَبَتُ: سامحني.

تَطَّلِع بِبَصَره يَلْمَع فِي سَعَادَةٍ مُمْتَزجة بِدُموع الْحِبْر، فَاِبْتَسَمَت لَهُ وَأَكْمَلَت قَلَمي؛ قلمي الْعَزِيز، نَجَاتكَ سَالِمًا أَعَادَت نَبْض الرَّوْحِ إلى حَياتِي وَقَدْ عهدتك قوَيًا، فَأَرْجُو قبول اِعْتِذَاري وَلَيَمْنَح كِلَانَا لِلْآخر الْفُرْصَة لِنَبْدَأ عَهْدنَا الْجَدِيد.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×