[موروث] عاشور بصبغته الاجتماعية الشيخ مجيد الصيمري في ذاكرته الزمنية وعبوره خطيباً

حسن دعبل

أظنه الصوت الشجي والعذب الباقي في ذاكرة أجيال تعدو إلى شيخوختها، أو تتوكأ بعكاز ذكرياتها، وما يتساقط من خريف شجرة الأعمار. ولا أظن أن قارئًا حسينياً اعتلى المنبر، وهو يمشي بين الأجساد الناحبة، قبل الصرخة والبدء والتسليم. ولا أظن أن بكاءً شق عنان السواد، وحزن عاشوراء قبل صوته، وتحوله بالأطوار الحسينية لجلاسٍ أرهفت مُهجها، وشرّعت الآذان للبكاء.

الشيخ مجيد الصيمري الذي بقي في الذاكرة، وواحد من قرّاء الذاكرة الإجتماعية، يورد في كتابه ” من ذاكرة الزمن” جزءا من الخزين الإجتماعي المُغيّب عن ذاكرتنا الجمعية، أو يبهت في غياب تلك الأيام البعيدة. حتى أنه يختزن في ذاكرته، ولحظة الكتابة لسيرته قبل أن يبتلعها النسيان، حالة من التسامح الفطري، وماجبُلت عليه حيوات أهلنا البحرية في تعايشهم مع من تقاسموا معهم المهنة، وضنك الحياة في مهنتهم وزادهم.

يورد الشيخ مجيد لحظة وصوله غريباً في أرض المطار، ويوردها كما تُنطق في اللّسان ” السنابس” قبل غياب لامها وألفها، وأفول تحولاتها، وغياب قوتها الاجتماعية المؤثرة، وضياع بوصلتها البحرية.

• في عام ١٩٦٧م حيث تم الإتفاق بيني، وبين أهل السنابس في القطيف، لأكون خطيبًا عندهم في العشرة الأولى من شهر محرم.
• بعد الإتفاق أخبرتهم برقيًا أني سأصل إليهم على الطائرة العراقية من البصرة إلى الكويت ثم الظهران.
• وصلت الظهران، ولم أجد أحداً منهم لتأخر البرقية. فأخذت سيارة أجرة، واتجهت إلى السنابس، ولما وصلتها، نزلت عند مسجد الشيخ محمد.
• وجدت رجلاً سألته عن بيت الحاج علي بن عبدالله الحبيب، فرافقتي إليهم، ولما وصلنا دخلنا الديوان، وكانوا جالسين على طعام سماط الغداء.
• غداك حاضر يا شيخ، قالها علي بن عبدالله، تلك عادة عربية، وعرفٌ اجتماعي، أن الضيف لا يجلس على الطعام الحاضر.
• وقد أحدثت مبادراتهم تلك، ولقاءاتهم معي منعطفاً في حياة أهل دارين، وكانوا ينتظرون مجيئي بفارغ الصبر. وكان من يين الأخوة أهل دارين الذين كانوا يترددون على مجالس السنابس…!

هكذا رصدت تلك العيون الغريبة من على منبرها صورة الحياة قبل توحشها، وقبل صرخة الرّايات، وبحة الحناجر بكراهياتها، وهي تلتهب، وتنتشر بهبوب رياح السموم على كل الجهات.
تلك الصورة الفطرية لعاشوراء، وهي تمر بذكرى العيون الدامعة، فتتحنن بها القلوب، وتتطهر بها الأرواح. لم تكن طاردة، ولا كارهة، ولا راصدة. الناس تتسربل بالذكرى بغير وشاح، ولا أثواب، ولا أستار. وحدها البيارق، مُثلثة الأطراف، مُخيطة ومطوية، وملفوفة بذكرى حضورها، مرفوعة بلا صرخات، و مظلوميات، ونزعات.
تُرفرف البيارق طاهرة بصرخة الوحيد. الوحيد في الحضور، وهو يمر في الغياب. الوحيد بصرخته يمر بذكراه، فتتذكره الناس خاشعة بقلوب متسامحة ورحيمة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×