بعض الخطباء وبعض المثقفين.. وصراع التَّيَاتِن

محمد حسين آل هويدي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم – بسم الله الرحمن الرحيم – … «51» وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ «52» فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ «53» فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ «54» – صدق الله العظيم – المؤمنون.

التياتِن جمع لكلمة تيتان (Titan). وتعود للعهد الإغريقي القديم. وتترجم للغة العربية كعمالقة أو جبابرة. وهؤلاء التياتِن يعتبرون الجيل الثاني من الآلهة الإغريقيين. الجيل الأول الآلهة أورانوس (السماء) وغايا (الأرض). هؤلاء الجبابرة صارعوا أباءهم حتى أطاح كرونوس (Cronus) بأبيه الشرير أورانوس. لاحقا، عَلِم كرونوس من خلال نبوءة بأن أحد أبنائه سيطيح به كما أطاح هو بأبيه. وفعلا، أسقط به ابنه زيوس (زعيم الأولمبيين) الذي أنهى عصر الجبابرة. الأولمبيون حلّوا محل الجبابرة بعد حرب ضروس. ومنها سميت الحرب بصراع التياتِن، كونها حرب عظيمة. الحمد لله أن هذه الأسطورة انتهت حينما كان زيوس متربعا على العرش، وإلا لا نعلم كم ولد سينقلب على كم والد، حتى اليوم. بل لا نعلم كم من معتقد يُعْتَبَرُ اليوم دينا، وفي النهاية يحجز مقعدا مع الأساطير. حسب الآية (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) يبدو أن الله أرسل للجميع أنبياء ومبلغين، وهذا لا يخرج الإغريق من قائمة المُنْذَرِين. ولكن مع الزمن انحرفت البوصلة حتى تحوّل معتقدهم إلى أساطير تبرر للإغريق بعض ممارساتهم الفاحشة. الإغريق كانوا مولعين بالجنس والخيانة الزوجية، ومنها جعلوا زيوس زير نساء بحيث يتمثل كالأزواج ويواقع الزوجات دون علم منهن. ويبدو أن الكثير من الناس يصيغون الآلهة على حسب رغباتهم. الغضوب يرسم في مخيلته إله غضوب. والمتسامح يتخيل إلها متسامحا…الخ. الكثير من الآلهة لم يَخْلِقوا ولكن في الواقع خُلِقُوا (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ).

في كل محرم أو رمضان يشتعل حرب الكلام بين بعض الخطباء وبعض المثقفين، ويظل الجمهور الكريم يتفرج، والذي في الغالب يميل مع الخطباء وذلك على حسب ميول العاطفة، وليس نضوج المعرفة. في كل سنة، يتكرر هذا الموضوع حيث يهّم الجمهور في الذود عن الخطباء ويشرع المثقفون الآخرون في الدفاع عن المثقفين المتصديين للكتابة والمتصيدين للهفوات. انقسم الناس إلى أحزاب؛ كل منهم يظن أنّ الحق عنده ومعه.

قبل كل شيء، علينا أنْ نحدّد الهدف؛ هدف الخطباء، وهدف المثقفين. هل الهدف توعية الجمهور أم الإطاحة بالخصم؟ يُفْتَرَضُ أن يكون الخطيب يتكلم ليرفع مستوى وعي الجماهير، وكذلك المثقف. المستهلك للخطابة والكتابة وحرب الكلام، الجمهور. هو الذي لأجله تُكْتَبُ الخطب وهو الباعث لأن يتدخل المثقفون؛ خصوصا، أولئك الذين يظنون بأن الخطابة أصبحت منبرًا للتقهقر بدلا من التقدم.

الخطباء أنواع: تاج يوضع على الرأس، ومن يحاول قدر استطاعته، ومن يحتاج رفعا، ومن وجب عليه التقاعد. تصنيف المثقفين قد لا يختلف كثيرا. هناك مهرجون يعتلون المنبر ويظنون أنفسهم خطباء. وهناك بهاليل يشخبطون ويظنون أنفسهم مثقفين. النوع الأول من الخطباء والمثقفين نادر. تصنيف الجماهير الكريمة لا يختلف عن الخطباء والمثقفين، وبنفس نسبة الجودة تقريبا. في الغالب، الجماهير تميل مع الخطيب حتى وإن أخطأ وحتى لو علموا أنه أخطأ لأنهم يعتبرون هذا الخطيب يمثل الدين (أو بالأحرى المذهب) وأنّ نقده تَهَجُّمٌ على المعتقد الذي راهنت عليه الجماهير الغفيرة سنين طويلة. عموما، لا يمكن لشخص أن يمثّل الدين، وذلك لأن الدّين لا يخطئ، ولكن الشخص يخطئ وربما يحيد، بل وربما يكفر. إقران الشخص بالدين قضية بحاجة إلى إعادة نظر. كان السامري من علماء بني إسرائيل ومن الثقات عند موسى (ع). بنو إسرائيل ظنوا فيه خيرا واعتبروه ممثلا رسميا للدين حتى زاغ وأضلهم.

واقعا، لا أعلم سِرَّ عداء بعض الخطباء للعلوم التجريبية! ولا أعلم لماذا ينتقدون أمورا لا يعرفون حتى أساسياتها! ولا أعلم لماذا يقبل الجمهور هذا الأمر منهم، بينما هم والجمهور يرفضون أن يبدي مثقف رأيه في الأفكار الدينية التي رضعها منذ المهد وربا معها حتى اشتد عوده!

تأتي العلوم على أشكال. هناك علوم تجريبية تقوم على نماذج ونظريات رياضياتية؛ مثل، الفيزياء والكيمياء والأحياء، …الخ. في هذا النوع من العلوم لا توجد علوم للرجال أو للرواية أو للنقل. مثل هذه الأمور لا تعني أي شيء بالنسبة للعلوم التجريبية. يعتبر ألبرت آينشتاين في قمة هرم العلوم. ولكن العلم والعلماء لا يأخذون بكل ما يقول ما لم يتم إثبات الأمر رياضياتيا ويُجرَّب على أرض الواقع. عدا ذلك، لا يهم القول أو من قال. العلماء رفضوا رأي آينشتاين في الفيزياء الكمية التي حصد فيها جائزة نوبل. واتضح أن رأيه خطأ، ورأيهم أقرب للصحة.

بعد هذا، تأتي العلوم النوعية (quantitative)؛ مثل، الجيولوجيا، وعلم النفس الفرويدي، …الخ. بعد ذلك، تأتي العلوم الإنسانية (humanities)؛ مثل، الاجتماعيات، والأنثروبولوجيا، …الخ. ثم تأتي الفلسفة ومشتقاتها؛ مثل، المنطق والدين والماورائيات، …الخ. ثم تأتي العلوم الزائفة (pseudoscience)؛ مثل، علوم الطاقة، والتنجيم، والسحر، …الخ.

من يجد نفسه في ملعب العلوم التجريبية يرفض الأدوات التي يستخدمها الآخرون رفضا تاما، وذلك لأن ليس لها أي نتائج أو براهين يمكن مشاهدتها أو برهنتها أو التعويل عليها (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). كما أنهم يحتقرون العلوم الزائفة ويتعجبون ممن يصدقها. وأكثر عجبهم من الذين يحاولون تسقيط نظريات رصينة من خلال النصوص المقدسة لدى البعض دون أي علم مسبق بها. مثلا، لم أجد حتى الآن شخصا يفهم نظرية التطور ويرفضها. بعض الرافضين لها قد يفهمونها ولكنهم يرجحون نصوصهم المقدسة. وأكثر الرافضين لها لا يفهمونها واقعا، ولا يعرفون حتى معنى جينة أو النموذج الرياضاياتي المحكم الذي تقوم عليه. فعندما يصعد أحدهم محاولا تسقيط هذه النظرية، يتعجب أصحاب العلوم التجريبية، وبعضهم يستهجن مثل هذا الفعل، ومنها يولد عداء فكري مع من يهرف بما لا يعرف. أكثر المعترضين على هذه النظرية يأتون من خلفية توراتية (يهود أو نصارى). وحينما يتصدى بعض المسلمين لهذه النظرية، هم في الواقع لا يدافعون عن القرآن أو الإسلام، ولكن عن وجهة نظر الكتابيين المتعصبين. لا القرآن ولا الإسلام يرفض فكرة التطور أو يأخذ بحرفية الأيام أو الخلق الدفعي الذي لم يُذْكَر في القرآن حتى. البعض يفهم أن الخلق دفعي بناء عن موروث قصصي وليس عن علم. في الغالب، من يكون في مضمار العلوم التجريبية يعرف كيف يفكّر الآخرون. ولكن العكس ليس صحيحا، في الغالب. عندما يقدّم أكاديمي أوراق بحثية أو يقوم بالدفاع عن أطروحته يعرف مثل هذه الأمور وكم تتم محاسبته في تحري الدقة والمصداقية. بالعامي، هذا الأكاديمي لا تقبل أوراقه ولا تُرْتَضَى أطروحاته إلا بعد أن ينشف ريقه.

وبهذا الخصوص، لقد نصحت وعززت النصيحة لمن يصعد المنبر ألا يُدْخِل نفسه في متاهات هو في غنى عنها. وأكرر نصيحتي أيضا؛ لا تحاول تسقيط أمرٍ يتعارض مع نصّك المقدس كونك لا تستوعبه أو لا تستسيغه لأن ذلك سيؤثر على سمعتك ومصداقيتك وسيضع اعتقادك في حرج كبير يتحمل مسؤوليته الجميع. أنت لا تتكلم برأيك. أنت تتكلم عن عقيدة لا تريد أن ينتهي بها المطاف في سلّة واحدة مع الأساطير. وعلى فكرة، لا يوجد مقدس عن أهل العلوم التجريبية ولا تستطيع أن تلزمهم بنصوصك المقدسة. لو تمسكت العلوم التجريبية وحدّت نفسها بالمقدس لما تطورت ولما شقت طريقها عبر أقطار السماء. أكثر المعارضات التي واجهت العلوم التجريبية أتت من النصوص المقدسة والمعابد. وتاريخ برونو وكوبرنيكوس وجاليليو ليس ببعيد. الأول تم حرقه حيا من قِبل الكنيسة. الثاني لم يستطع التصريح برأيه ولم يتم نشر أفكاره وكتابه إلا بعد وفاته. أما الثالث فتم تهديده بحرق أمه وهي حية إنْ لم يسحب أقواله. في النهاية، انتصر العلم على نصوص الكنيسة المقدسة. ويش يرقعها الحين؟!!! هل لا تزال تصر على فهمك لنصوصك المقدسة أمام ما توصل إليه العلم؟ إن كان جوابك “نعم” فعليك تحمّل النقد اللاذع الذي ربما لا تستطيع أن ترد عليه بطرق علمية وتعتمد فيه فقط على عاطفة الجماهير التي تزداد وتيرتها خلال محرم. وسيأتي يوم سيتنصل من يأتي بعدك من هذا الإصرار على معاداة العلم كما فعلت الكنيسة واعتذرت مؤخرا عن إيذاء العلماء بالحرق أو القتل أو النفي أو التنكيل. رجاء، لا تضع من يأتي بعدك في مواقف محرجة. الوعظ مادة يحتاجها الجميع وباستمرار، ولا بأس أن تعظ الناس وتوجههم نحو الأخلاق الفاضلة بدلا من عضِّ أصابع الندم لاحقا على هفوات كان بالإمكان تفاديها.

وأنت أيها المثقف المطلع والناقد الجهبذ، ما هدفك؟ التصيد أو رفع مستوى الخطابة ووعي الجمهور؟ إن كان الأول، فلا داعي للكتابة. أما إنْ كان همّك الرفع والزيادة في الوعي، فمرحبا بك. اعلم أن رفع مستوى الخطابة ليس مسؤولية الخطيب وحده. هي مسؤوليتك أنت أيضا. زيادة الوعي، مسؤولية الجميع. اِعْلم أن هناك خطباء يجهدون كثيرا للحصول على معلومات بسيطة متفرقة من كل مكان. أَعْرِفُ بعض الخطباء الذين يقرؤون عشرة كتب لتقديم خطبة في ساعة. فعلهم هذا محمود جدا. لا نتوقع منهم أن يكونوا معصومين عن الخطأ أو الزلل. فَكِّر ماذا سيحدث لو تضافرت جهودك وجهود هؤلاء الخطباء للإتيان بمادة أفضل للجميع؟ واقعا، النقد سهل. ولكن تجميع المعلومات والخطابة ليست بالأمر السهل، إطلاقا. جَرِّب بنفسك أن تقدم خطبة لجماهير في غضون ساعة. كم كتاب ستقرأ؟ وكيف ستحضر للمادة؟ وكم من الوقت ستستغرق؟ وهل سينتهي بك المطاف بتقديم خطبة معصومة عن الخطأ؟

في النهاية، أود أن أشيد بفعاليات محرم لهذه السنة حيث أجاد المنسقون والقائمون على المجالس. وقد أبدع بعض الخطباء؛ وكلهم مشكورون إن شاء الله، وكل على سعته. أعرف خطباء مرضى لا يستطيعون الكلام، ناهيك عن الحركة، إلا أنهم اجتهدوا كثيرا في تقديم مادة للجماهير. وعلى ذكر الجماهير، نشكر تعاونهم منقطع النظير لإنجاح هذه الفعالية، ولولا تعاونهم لما تم النجاح أصلا. ما حدث هذه السنة يبشر بخير وذلك لأن الوعي تم تطبيقه بصورة نموذجية. يا أحباب الحسين، كونوا دائما في الطليعة في الأخلاق والتعاون والمحبة وإنجاح المناسبات قدر المستطاع.

بارك الله فيكم، وجعلنا الله وإياكم من المعتوقين يوم القيامة من النار ومن المشفوع لهم، إن شاء الله.

‏الأربعاء‏، 02‏ سبتمبر‏، 2020

‫3 تعليقات

  1. اثراء معرفي واستنهاض للعقول على التفكر والتدبر
    ونية صافية صادقة تنساب بين الحروف
    .
    الله يرفع شانك وينغعنا بك

  2. النصوص المقدسة الصادرة من القرآن الكريم ومن المعصومين عليهم الصلاة والسلام لا تقارن بالنصوص المقدسة للديانة المسيحية ، والتي لم يتم الحفاظ عليه .وكثير منها من تآليف الكهنة
    فكلام المعصوم مقدّم على العلوم التجريبية والتي تتغير مع تقدم العلوم وفهم العالم … مثل ما تفضلت لنظرية أينشتاين في الفيزياء…

  3. اشكر الكاتب على موضوعه الجميل الشيق
    بما اننا نفترض ان الخطيب هو عالم دين يعني متخصص في امور الدين فمن سيرد عليه ايضا ينبغي ان يكون متخصصا في مجاله وليس مثقفا فقط
    وايضا كما انه توجد محرمات لدى المتخصص في الدين يرفض المساس بها ويعتبرها قطعية كذلك هناك في العلوم التجريبية والانسانية مقولات ونظريات يرفض المتخصص المساس بها لانها من المسلمات
    ولكن البعض من الطرفين يتوسع في مصاديق القطعيات كبعض التفاصيل في واقعة كربلاء بالنسبة للخطباء وبعض النظريات في العلوم الاجتماعية لدى المختصين الاجتماعيين
    يبقى هناك فرق ان القطعيات الحقيقية التي ينقلها لنا الوحي والتي يجمع عليها العقلاء ونقلها التاريخ يحاول البعض التشكيك فيها وهذا يجلب ردة فعل الاخر ويرد بالقول هل تقبل ايها المتخصص ان ارد ما تسالم عليه علماء تخصصك مع انه غير مدعوم بالوحي
    هنا ينبغي الاتزان في الرد فليس كل من اشكل او شكك كان هدفه سيئا وليس كل من اساء النية كان الرد عليه منحصرا في التفسيق والتكفير واتهامه بقلة العقل

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×