دار مهنا بدارين.. آخر ملاذ الفن البحري
حسن دعبل
لا ينبغي أن تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا ً، ألا ترى أن أهل الصناعات كلها اذا خافوا الملالةَ والفتور على أبدانهم ترنّموا بالألحان.
افلاطون
لم يكن الغناء البحري، إلاّ حياة أو دورة حياة ببشرها، تقاسي وتشقى وتتعب، فتتعاشق بأبدانها، متمايلة بخفةٍ وخيلاء. سواء كانت على ظهر سفنها، أو في دور بيوتها المُشيّدة قرب الموج والماء. حتى لك أن تأنس صوت الموج برقصاتهم على إيقاعٍ، وقفزة، وصفقة يد، كما سفينة تشقّ عباب البحر .
وكما نشأت البنادر البحرية، والقرى والبيوت البسيطة، قرب أسياف البحر، وتعايشت بصفاء ووفاء، إلاّ لتكون واحدة من مُكملات السلوك الحياتي اليومي، لتلك الحيوات بعذابها وفرحها وفقرها وغناها، وأغانيها.
ولم يكن أصحاب الغناء والطرب وحدهم، من قالوا أن “دارين” تاريخياً كانت معقلاً من معاقل الغناء البحري، والمعقل وما تعنيه دلالتها في المعنى أكثر من الوصف في الواقع، لمكانتها، وبندرها البحري، وتعدد دور طربها، وتنوع الغناء البحري، وتلاقح فنونه وأمزجته في الرقص والغناء. فظل الغناء والسمر حتى سنوات متأخرة من ظهور النفط، وهجرة مهن الغوص وبحارته، يصدح في ليل دارين، وأنس أماسيها.
ربما سفن وأبوام الغوص الكويتية، هي الذخر الباقي لهذه الفنون، فمن سفر الغوص وأشرعته، خطفت إلى أبعد من طقوسه وحسرات غنائه في الدّشة، والگفالّ، وما صرخت به حنجرة مخلّدة عذبة شجية، بصرخة متفردة لفنانتها عوده لمهنا “توب توب يا بحر”، إلا تخليداً وصدًى بحنين تلك الأيام، وحسرات الخوف، وقلق الهواجس، وليالي قيظ السهر.
فأبوام السفر الكويتية، القطاعي والسفاري، خطفت إلى أبعد من صرخة عوده. “سانت” من بساتين أبي الخصيب والعشار، بشمال خطفة الأشرعة، طارحةً في بندر دارين آنسة، قبل أن تخطف مسافرة بتلاقح الغناء، وغياب مفردتها البحرية إلى إيقاع”لِفجري” في دور طرب تنهم بنفس لسانها وبحتها، وصرختها الجارحة، بجراحان قبل الرقص والغناء، والأجساد التي خافت الملالة والفتور. لكنها آنست موت المهنة التي لاذت بفنونها، وجراحانه الحزين العميق. ولجراحان هو الألم الآتي من الجرح وعذاباته، ولونه البحري في الأداء قبل التزيلة، وما يختزنه من عذابات مهنة البحر، وأهوال سفره، ولجراحان هو موال عادي، ذات طريقة وتقاليد وتقنية معينة في الأداء والتجاوب بين النهام أو المؤدي والمجموعة.
————-
اليوتيوب صرخة جراحان، جارحة بصوت “حسن عوجان، في دار مهنا. و الصورة لصاحب دار مهنا ، والنهام بو شرار. ودار مهنا، هي آخر دار طرب من سبع دور طرب كانت في دارين، بقيت تصارع الفناء والبقاء، لكنها أيضاً ماتت، بموت صاحبها وأولاده.