بين العوامي وأبي البحر

شفيق العبادي
-1-
أن يلقي شاعرٌ شباكَ ذائقته، ويعمل أدواتَ بحثه ليصطاد اسمَ شاعرٍ بعينه باعثا ومحققا له دلالته، في محيط يصطخب بالأسماء الشعرية التاريخية والوازنة في ذات الوقت. سيما أن ثمة مشوار فارق لابأس به. مما يعني أن هذه المفردة الثقافية المستقطعة من سياقها الخاص صالحة للإستزراع كرة أخرى في سياق جديد له ماله من نكهة مغايرة. ومما يعني أيضا امتلاكها طاقة دفع ذاتية مكنتها من عبور تلك المصادَّات الثقافية والوصول بكامل لياقتها لفضائها الجديد.
فما الدافع لهذه المغامرة الكتابية؟
* هل السبب هو مشترك الانتماء (ثمة قرائن تشير إلى أن أبا البحر ولد في نفس قرية التوبي، مسقط رأس الشاعر العوامي)، وبتكبير الدائرة فكلاهما ينتميان للقطيف، تلك التي استقصى كل تفاصيلها الفكرية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، كبوابة عبور للشاعر الخطي.
* أم القراءات المبتسرة والمطففة التي تناولت (الخطي) ترجمة وتحقيقا، يشفع لبعضها وهن المتكئات التي أخرجت القراءة عن منهجية النقد العلمي لاعتمادها على مخطوطة كثيرة الأخطاء كسلسلة مقالات الباحث عزالدين التنوخي (الأدب في البحرين في فاتحة القرن الحادي عشر)، نشرها في مجلة المجمع العلمي بدمشق، مختصرا إياها على دراسة شعر أبي البحر الخطي من شعراء تلك الحقبة. وبعضها الآخر مصبوغ برائحة التمييز والسطحية كدراسة د/شوقي ضيف في كتابه تاريخ الأدب العربي (عصر الدول والإمارات) حيث اختصرها في صفحتين وتسعة أسطر وثلث السطر خاتما إياها بأن شعر أبي البحر الخطي (رديء ظاهر التكلف). هذا لا يعني عدم وجود دراسات أنصفت الشاعر الخطي كدراسة د/حاجم الربيعي.
* أم ثمة تواشج أخد بأشرعة الاقتراع لتخوم لا يحدقها غير من استمرأ التغريد خارج السرب؟
-2-
لم تكن مفردة (شاعر) بصفتها عتبة النص الأولى، وفاتحة الكتابة لهذه المقالة فائض قيمة، وعالة على المعنى. المعنى الذي يعتبر فردوس الشاعر في البحث عن ظله. والمخبوء في تخوم اللغة متمظهرا بصفة المجاز تارة، والقناع تارة أخرى. سيان في ذلك بكامل إرادته (تحت سلطة الوعي) أو خلافه (اللاوعي)، كل ذلك ضمن مروحة الإجتهادات التي تقترحها الكتابات المفتوحة أو المحفورة في كهوف المعنى.
والسؤال هل ثمة شبهة تحيلنا للاتكاء على أحد هاتين الرافعتين أو كليهما؟
-3-
بالقفز على مشترك الانتماء الذي جاء في سياق التساؤل عن الدافع وراء مغامرة الكتابة، هناك عدة نقاط التقاء في شبكة العلاقات التي تربط الشاعرين تاريخيا وثقافيا بصفتهما نصان لابد من القبض على مفاتيحهما لقراءتهما من الداخل.
فكلاهما تمرد بطريقته الخاصة منطلقا من فضاء اللغة (القصيدة) بصفتها المكون الأساسي لتشكيل وإعادة صياغة الوعي من خلال انحرافها بنهر اللغة عن مساره الاعتيادي إلى قنوات أخرى لا يعوزها الخصب لتبدأ دورة النماء الطبيعي بمنأى عن أي مشوشات تربك نضجه الفطري.
فبينما عبر الخطي مطبات عصر الانحطاط الذي خيم على الواقع العربي بسبب ظروفه الموضوعية ضاربا بنية القصيدة (كونها قبان اللغة، ومجساتها المفرطة الحساسية) بإحالتها لأكوام من الركام اللفظي المكرور والمفرغ من المعنى، متمردا على الثوابت التي استجاب لها شعراء تلك الحقبة المظلمة من تاريخنا الثقافي.
عايش العوامي فترة التناطح الشعري (حسب تعبير د/غازي القصيبي) بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، أو ما اصطلح عليه وقتها التقليدية والحداثة، ولأننا لا يمكن أن نجزم بتطابق ظروف المرحلتين، إلا أنه يمكننا الجزم بوجود بعض المسببات التي شكلت هذا الانقسام العمودي حتى على مستوى بنية الوعي الجمعي مما خلفت معارك لم نتعاف منها حتى اللحظة والخاسر الأكبر هو الشعر الحقيقي وما يتعالق معه، كما أن ذلك الإنقسام لم يكن بمعزل عن أي تداعيات أخرى لا مكان لذكرها هنا.
وبينما اخترق الخطي برزخ التقليدية المريضة التي وسمت عصره، جرأة وتمردا ومغامرة وحداثة أحيانا قصيدة السبيطية (مثالا)، متناصا في بعض الأحيان مع شعراء كبار كالمتنبي، وأبي تمام، وأبي نواس تعميقا وتأصيلا لمشروعه الثقافي.
عبر العوامي بقصيدته المظفورة بجدائل الشعر النقي، والمنحدر من آبار اللغة الصافية رياح المرحلة بشراعين اثنين رمز المرأة الذي عزف به على أوتار قصيدته بتنويعات مختلفة، ورمز الأرض بما تعنيه من تجذر وكينونة، متفجران من بركان الروح وجوانيتها راسما صورة المبدع الحقيقي المنتج لمفاتيحه الخاصة من بيئته الأم وليست المستعارة (فالشعر عصي على الإستعارة)، ومؤكدا على قيمة المعنى وليس الشكل.
-4-
غير آبهين بعدها أن يطفوا شاعر كالبارودي على سطح المشهد احتفاء بدوره كفارس عصر الإحياء، ويبق الخطي على هامش المتن، أو أن يتم الإحتفاء بشعراء الموجات الجديدة دراسة ونقدا وتداولا، وتمر قصيدة العوامي بهدوء الواثق من مآلاتها التاريخية. فكما يخبو رغاء البحر بزبده لتظل صفحة مياهه مزهرة بما تحضنه سطورها من معان عميقة جدا، يبق الشاعر قمرا في ذاكرة الأجيال، حيث هي الأقدر على صيانته من أي تحريف أو مين.