على أعتاب خطوات إلى الماء

محمد آل عمير

هو الماء ، نشيد الأشياء التي تحنو على شريان الوقت ، به الزمن يتشكل ويكتب نموه على أهداب الرياح ، يضع للحياة عنوانًا لا ينضب من تأملات جمة تقع ما بين السماء والأرض وتجاور النخيل والأشجار وترسم للمكان عيونًا وجداولًا وسلالم تقترب إلى أفئدة الناس وتقع داخل وجدانهم وفي مرسى مشاعرهم وذكرياتهم .

هو الماء ، القصيدة التي ابتكرت قوافي الألوان ، وطرزت في أبجديات اللغة رحيق الحكايا ، هو يدرك طبيعة الحياة بمختلف كائناتها ودوّابها ومراعيها ، به عاشت الأنفس وتنفست الأرزاق شذا غيث القطرات ودفء الذكريات ويقظة الصباحات وألفة ساعة الأصيل مع بداية ضياء القمر وإخفات حفيف الشجر وإسبات زغردة الطير في أبهى الصور ، و كان للماء سيرة في واحة القطيف ؛

حيث كانت للنسوة من ملامح القرن العشرين دورًا فيه روح المسؤولية في الوفود على الماء في أعمال التنظيف المتعلقة بالملابس ومستلزمات الطعام ، وفي أعمال السقاية وإن لم تشتهر بشكل كثيف ، وفي أوقات الاستجمام الخاصة بهن .

في قسمات الأخضر كان الماء عنوانًا للحيوية الممتزجة مع المسير نحو الواحة الغنّاء بالنخيل وأشجار أخرى ذات ثمر ، مع أصوات الديوك المستيقظة في ” غبشة الصبح ” مع زغاريد البلابل وسكون السنابل ، ونمو السعفة تتلوها السعفة مكونةً سقفًا مكثفًا بالنخيل الباسقات متداخلة مع خيوط الشمس كسواد معتم وضوء يُرى بإخفات متناغم مع تجليات الطبيعة الريفية .

هنا في الواحة يمشين النسوة على درب الماء خطوة بخطوة ، يتبعنّ مسار كل قطرة ، ينثرن شيء من بصماتهن على إيقاع الجدول القادم من عين ماء جوفية تأتي سراعًا إليهن كما تأتي الثواني سراعًا مع ذرات الدقائق ، الظلال تتمركز على سعف النخيل والشمس تقترب من ساعات الزوال منذرةً بوقت الضحى ، يجلسن بعدما أثرت مسيرة الماء على أثر خطواتهن ، تحفهن القهوة وتجتمع الأمهات مع صديقاتهن اللاتي كبرن على أصوات خرخير القطرة تتلوها القطرة ، ومع أصداء هديل الحمام ، وزغردة العصافير ، وأعماق العيون المتناثرة في أنحاء الواحة وقراها ، ومن بُعد خطوات قليلة تأتي رائحة البحر وأصوات النهام القادمة من أعماق الخور أو في وسط البحر الواسع ، وفي وقت انتظارهن لعودة البحارة واشتياقن لهدية البحر لؤلؤ مشرق في عمق محارة تقع بين أعماق صخور ، ولاتخلو من محيطها شعب مرجانية .

هكذا يروي الماء بعضًا من حكاياته ، ولكنه ما تزال في دواخله غصات يريد أن يمنح لذاته فسحة لإزالة غبار المدى النابع من حنينه في أرجاء مجاديف آماله ، متشبثًا بالتأمل وكثير كثير من غيوم الأمنيات التي ينتظر أن تهطل ولو لوهلة كي تغسل شيء من أطلاله الأولى كلحظة متجلية في ذاكرة لا تغيب ولا تنضب ويرويها الناس بكل حنين واشتياق .

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×