[ميناء القطيف 15] الملك عبدالعزيز في القطيف حجاج من القطيف ماتوا في البحر.. وسنة الطبعة تغرق اليابسة.. والخميس الأسود يأتي بضريبة جديدة
ميناء القطيف
مسيرة شعر وتاريخ
عدنان السيد محمد العوامي
استدراك
مر بنا أن السفر للحج تحول عن البر إلى البحر طلبًا للأمن والسلام، وفرارًا من اللصوص وقطاع الطرق، إلا أن سجل هذا الميناء كما هو زاخرٌ بالمفرح المبهج، فهو كذلك مليء بالمحزن المبكي، من ذلك ما وقع لحملة حج بحرية متوجِّهة من القطيف إلى حج بيت الله الحرام عام 1340هـ، فتوفي فيها أحد الحجاج، وهو محمد علي بن علي النهاش (رحمه الله)، أثنا عبور الحملة بالبحر العربي، قرب جزيرة قمران، قبالة ساحل اليمن، ومع أن وفاته كانت طبيعية إلا أن خاتمتها مأساة حقيقية فقد كانت طريقتهم – آنذاك، في الأسفار الطويلة – أن يتخلَّصوا من الجثمان خوفًا من أن ينتن، ولقد سجل هذه الحادثة المعلم الملا علي بن محمد الرمضان الخطي، (رحمه الله)، في مطولته: (ماضي القطيف وحاضرُها)، وهذا نص ما جاء فيها عن الحادث:
والفاضلُ النهَّاشُ شيخُ أُوليِ النُّهى
وسَمِّيه الَجشِّيُّ ذاك اللوذعي
وفي شرح البيت قال: “34 -الشيخ محمد علي، المتوفَّى في أواخر شهر ذي القعدة الحرام، قريبًا من قمران، وألقيَ في البحر، وذلك عام 1340هـ، ابن الحاج علي النهاش. 35 والشيخ محمد علي المتوفى في البحرين ظهر يوم الجمعة 8 – 8 – 1361هـ. . .” [i].
لا يحسن أن ألج الفقرة التالية قبل التنويه بفضل الأخ النبيل الأستاذ عبد الإله التارتي وجميل صنعه، باستدراكه عليَّ بهذه المعلومة، وتزويدي بأحد مصدريها.
رسالة وصورة تلغرافين من الملك عبد العزيز عبر الميناء
بتاريخ 8 صفر سنة 1335هـ، وصل الملك عبد العزيز (رحمه الله) إلى القطيف، ومنها بعث بالرسالة التالية إلى القنصل البريطاني بالبحرين بي جي لاك:
“من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى جناب الأكرم الأمجد، حضرة محبنا العزيز قبطان بي جي لاك قنصل الدولة البهية البريطانية بالبحرين المفخم
غب تفقد الخاطر الكريم، والاستفسار عن رفاهية المزاج السليم، إن سئلتم عنا فلله مزيد الشكر طيبين، ولروابط المحبة والصداقة مراعين، وقد يسَّر الباري وصولنا القطيف يوم الثلاثاء[ii]، 8 شهر صفر سنة 1335مصحوبين برعية الله تعالى بالصحة والسلامة، هذا وإنني متشكرًا وممنونًا من حضرة محب الجميع الحاكم السياسي سر برسي كرنيل كوكس بما أبداه من الإكرام والملاطفة، وكذلك أشكر حسن الثقات قواد وضباط العساكر البريطانية العظمى، أسئل الله الموفقية للجميع، حيث للغاية صرت مسرورًا وممنونًا منهم. وتجدون بطيه لفًّا صورة تلغرافين، إحداهم إلى حضرة السياسي سر برسي كرنل كوكس، والثاني إلى حضرة قنصل الدولة البهية بالكويت، أرجو – لطفًا – تقدمونهم إلى المشار إليهم، وبذا تصيرونا ممنونين. محبكم بعد التاريخ في يوم 2 (ساعة؟) نتوجه إلى الأحساء. نرجو دوام مودتكم، واتصال أخبار سلامتكم، والإفادة عن أخبار الدولة البهية في المواقع الحربية. ودمتم محروسين£ 8 صفر 335″.
سنة الطبعة
“ما يزال الناس يتذكَّرون العام الذي عُرِف بـ(سنة الطبعة)؛ ففي الساعة الواحدة والنصف بالتوقيت الغروبي، أي وقت صلاة العشاء، ويومَها لم يكونوا يعرفون التوقيت الزوالي – الذي نستعمله نحن الآن – من مساء يوم الخميس (ليلة الجمعة) 13/3/1344هـ، الموافق 30/9/1925م هبَّت على الخليج عاصفة قوية أطاحت بأكبر السفن وأقواها، وكسَّرت الأعمدة التي تعلَّق عليها أشرعة السفن (الدقل)، وأغرقت المئات من ركاب السفن من جميع أقطار الخليج، ولقد أخبرني المرحوم أحمد بن سلمان الكوفي، الشاعر المعروف، وكان هو، يوم ذاك، أحد ركاب الغوص (سيب)، وهو الذي حدَّد لي وقت وتاريخ هبوب العاصفة، يقول أحمد: «بعد أن ألقت بنا العاصفة في عرض البحر؛ ركبتُ أنا ومعي 14 شخصًا من زملائي في السفينة على الدقل ([iii])، وتشبَّث به كل واحد منَّا، وظلت الأمواج تتقاذفنا، ونحن متمسِّكون بالدقل؛ كيلا نرسب في قاع البحر، ونروح طُعمة سائغة للأسماك، وهكذا ظللنا على ذلك الدقل من حين هبوب العاصفة حتى ضحى اليوم التالي حين انتشلتنا إحدى السفن التي خرجت – بعد سكون العاصفة – للبحث عن الناجين»، يقول أحمد الكوفي: «حينما صعدنا على متن السفينة التي انتشلتنا؛ وجد كلُّ واحدٍ منَّا لحمَ فخِذِه الملاصقَ للخشب قد تهرَّأ؛ لأننا كنا نضغط عليه بقوة حتى لا تُطيح بنا الأمواج من على الدقل»([iv]).
سَنَة الجهاد المثني
هكذا كانوا – في ما سلف من أيَّامهم – يؤرِّخون الحوادث، فيعطون السنةَ اسمَ أكبرِ حدثٍ مرَّ بهم فيها، والحدث الأكبر الذي هز المملكة في سنة 1348هـ، ولأجله سمَّوها (سنة الجهاد المثني)؛ هو اضطرار الملك عبد العزيز (رحمه الله) لزيادة إحدى الضرائب التي كان يستوفيها من المواطنين، وهي (ضريبة الجهاد)، و(ضريبة الجهاد) هذه؛ ضريبة ورثتها الحكومة السعودية من سلفها السلطنة العثمانية؛ إذ كانت تستوفيها على أهل المدن والأرياف؛ لعدم ثقتها في قدرتهم وصلاحهم للحرب، وكذلك على من لا يرغب الالتحاق بالجيش، وأمَّا السبب الموجب لزيادة هذه الضريبة؛ ففي ذاكرة الزمن حدثٌ جلَلٌ هزَّ العالمَ كلَّه من أدناه إلى أقصاه، ففي يوم الخميس 21/5/1348هـ، 24 أكتوبر 1929م، بدت ملامح انهيار لسوق الأوراق المالية العالمية؛ (البورصة)، فسُمِّي ذلك الحدث: (انهيار بورصة وول ستريت -The Wall Street Crash)، وسُمِّيَ اليوم: (الخميس الأسود – Black Thursday)، وبعد خمسة أيام، أي في يوم الثلاثاء 29 أكتوبر 1929 بلغ الانهيار أقصى مداه، فسمِّي ذلك اليوم: (الثلاثاء الأسود -Black Tuesday)، هذا الانهيار الاقتصادي العالمي المهلك، لم يَنْجُ منه بلدٌ في العالم كلِّه، والمملكة ليست استثناءً، فاجتاحتها ضائقة مالية اضطرت الملك عبد العزيز (رحمه الله) إلى مضاعفة ضريبة الجهاد ([v])، فسميت الضريبة بـ (الجهاد المثني)، أي المضاعف، وبسبب ما نتج عن هذا الإجراء من تداعيات خطيرة سمَّوا السنة: (سنة الجهاد المثني) على طريقتهم في ذلك الزمن في التأريخ بأسماء الحوادث، كما سبق أن بينت، وليس بالأرقام، كما هو جارٍ اليوم.
أما التداعيات فأولها لجوء الأهالي إلى الهرب، بالسفن، إلى البلدان المجاورة، وأكثرهم اتجه إلى البحرين لأنها الأقرب، حتى خلت البلد من السكان، أو كادت، وعجز أمير المنطقة بالوكالة آنذاك [vi]، عن توفير ما تحتاجه الحكومة من الأموال، فلجأ إلى مصادرة قلوع السفن، وسكاكينها (دفَّاتها)([vii])، للحيلولة دون استخدامها في الهرب، عملاً بمشورة أحد موظفيه، ويلقَّب بابن مرجان([viii])، والمعروف أن أهل القطيف، أهلُ بحرٍ وسُفن، وليسوا أهلَ برٍّ وجمال، وحدثت أمور وتناهت الأخبار إلى الملك عبد العزيز (رحمه الله)، وكان – يوم ذاك بالأحساء – فبعث هيئة للتحقيق، هم حسب رواية الملا عبد المحسن النصر: حافظ وهبة، وإبراهيم بن معمر، وفؤاد وهبة، فوجدوا البلد هادئة، فاقترحوا على أعيان البلد أن يذهب منهم جماعة إلى الملك، فأوفدوا كلا من عبد الله بن نصر، ومحمد حسين بن حمود، (والد الشاعر عبد الكريم) وعبد الله بن نصر الله، ورضي العلقم، والخنيزي، فاستقبلهم الملك أحسن استقبال، وهدأ مشاعرهم، وأسقط الضرائب، واستقدم الأمير ووبخه.
ويضيف مصدر آخر أنَّ الملك أمَّن الهاربين، أيضًا، ولكن أمراً حدث فعزل الملك عبدالعزيز أمير القطيف من منصبه([ix]).
—————-
([i])ديوان وحي الشعور، الحاج ملا علي بن محمد الرمضان، المطبعة الحيدرية، عني بنشره الفاضل علي المرهون، النجف، العراق، 1379هـ، 1959م، جـ2/103. وانظر”الأزهار الأرجية”، طبعة دار هجر، بيروت الطبعة الأولى، مجلد 2 ج6 ص: 377.
([ii] ) يلحظ فرق في التأريخ؛ 8 صفر يوافق يوم أحد. ينظر محولات التاريخ.
([iii])الدقل: الصاري، خشبة طويلة في وسط السفينة تحمل الشراع، فصيحة.
([iv])جهاد قلم – في الصحافة والسير والأدب، السيد علي ابن السيد باقر العوامي، جمعه وحرره، ونضده ووضع إضافات وعلق عليه عدنان السيد محمد العوامي، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى، 1441هـ 2019م، ص: 282.
([v])ديوان (من وحي الحياة)، الملا عبد المحسن محمد النصر العلي، تقديم السيد شبر علوي القصاب، طبعة محلية خاصة، 1436هـ، 2015م، قصيدة (الجهاد المثني)، ص: 46 – 47.
([vi]) ديوان خالد محمد الفرج، تقديم وتحقيق خالد سعود الزيد، مطابع القبس، توزيع شركة الربيعان، للنشر والتوزيع، الكويت ، الطبعة الأولى، 1989، ص: 26.
([vii]) السكاكين، جمع سُكَّان: ذنب السفينة، وهو آلة التوجيه فيها، فصيحة، حلت محلها: (الدفة)، وهي مولدة، قال الوزير المغربي يصف ملاَّحًا شابًّ، ويعدد أجزاء السفينة:
ومصعدٍ سُفُنُهُ قلبي ومنحدرٍ بالماءِ والريح من دمعي وأنفاسي
إذا انحنى حثَّ قلبي نحوه طرباً أو مدَّ مدَّ إليه أعينَ الناس
وافت ملاحتهُ فيها مِلاحتَهُ فأفتنَ الناسَ في قَلسٍ ومقلاس
لأشكونَّ إلى سكانه وإلى خنّيه إن خان عهدي قلبُهُ القاسي
موقع بوابة الشعراء، الرابط: https://bit.ly/2CRsUw4
([viii]) ذكر اثنان بهذا اللقب في رسالة عبد اللطيف المنديل المؤرخة في يوم السبت غرة شعبان 1334هـ إلى الملك عبد العزيز هما عبد المجيد وعمر، ولم يتضح لي من منهما صاحب المشورة. انظر، ديوان من وحي الحياة، عبد المحسن بن محمد النصر العلي، طبعة كمبيوتر محلِّيَّة، حوادث سنة 1348، قصيدة الجهاد، ص: 41 – 63.
([ix])الحركة الوطنية ، مر ذكره، جـ132 – 33، وانظر: ديوان (من وحي الحياة)، الملا عبد المحسن محمد النصر العلي، تقديم السيد شبر علوي القصاب، طبعة محلية خاصة، 1436هـ، 2015م، قصيدة (الجهاد المثني) ص: 46 – 47.