[ميناء القطيف 14] كتاب ممنوع.. ورحلات الحج.. ورجال الحِسبة
[من أوراقي 14]
ميناء القطيف
مسيرة شعر وتاريخ
عدنان السيد محمد العوامي
طالب أزهري وكتاب ممنوع
لهذا الميناء حكايات تدخل في عداد العجائب والخرافات كحكاية سمعتها من زمن بعيد، ولم أصدقها؛ حاصلها أنَّ مدرسًا مصريًّا تعاقدت معه الحكومة السعودية على العمل مدرسًا في الرياض في بداية عهد التعليم النظامي، فجاء إلى القطيف، ومنها إلى العقير، ثم الأحساء، وهناك استقل سيارة نقل كبيرة مع نفر من المسافرين، وفي الطريق توقفت السيارة ليلاً خارج إحدى القرى، ونزل الرُّكاب منها ودخلوا القرية، وبقي المدرس على ظهر السيارة، فخاف على نفسه من سباع البريَّة، فنزل ودخل مسجد القرية، وطرح نعشًا كان في المسجد، وهو يظنه سريرًا، والتفَّ بشرشف كان معه، وبسبب الإجهاد الشديد الذي قاساه في سفره الشاق، لم يُفِق إلا على ضغط الأيدي على جسده وهي تحمله وتدليِّه في القبر، فقد كان من عادة أهل القرية أنه إذا تُوفي منهم أحد ليلاً غسلوه، وكفنوه، ووضعوه في المسجد ليعلم به أهل القرية فلا ينصرفون إلى أعمالهم إلا بعد أن يشيعوه، وحين حضر أهل القرية لصلاة الصبح، ورأوا المدرس ملفوفًا؛ ظنوه ميتًا مجهزًا للدفن، فصلوا عليه وحملوه إلى المقبرة، فلم يَصْحُ من نومه إلا لحظة إنزاله في القبر، فارتعب، وأرعب المشيعين، ففروا هاربين.
بقيتُ متشكِّكا في هذه الحكاية لا من غرابتها وحسب، وإنما من كيفية وصول هذا المصري إلى القطيف في ذلك الزمن، وغاب عن بالي أن الملاحة بين البصرة والكويت والقطيف كانت قائمة منذ زمن بعيد، فليست بالغريبة حكاية هذا الطالب الأزهري الظاهر في عنوان الفقرة، فأنا لم أسمعها من أحد هذه المرة، وإنما حكتها لي وثيقة عثمانية عن رجل من أشراف نجد، اسمه عبد الله بن عبد المحسن المغيرة، يعمل مع أمير دارين محمد بن عبد الوهاب الفيحاني، على تحريض أهالي نجد على التمرد في وجه الدولة العثمانية، وفي خطاب بعثه ممثل الدولة العثمانية فوق العادة في مصر إلى الباب العالي مؤرَّخ في 25 ذي الحجة سنة 1320هـ 1902م جاء فيه: >إنَّ عبد الله بن المغيرة كان يمتلك بحوزته عدةَ مئاتٍ من كتاب طبائع الاستبداد[iv] أثناء توجُّهه مع طالب أزهري إلى جيبوتي، ثم إلى مسقط ليجتمعا بأمير دارين، وينطلقا – من هناك – إلى الأحساء والقطيف، ومن ثم إلى الكويت لتوزيع الكتاب على الأهالي، بغية القيام بالتمرُّد في وجه الدولة العثمانية، وقد استمر عبد الله بن المغيرة في أعماله المنافية للدولة العثمانية حتى سنة 1332هـ 1913م، أي بعد دخول القطيف في حوزة الدولة السعودية.[v].
عبدالرحمن الكواكبي.. مؤلف كتاب “طبائع الاستبداد”
جموع حاشدة وأغاريد
المشهور الراسخ في ذاكرة الكبار، عن أيامهم الماضية أن محطة قوافل الحج كانت في برَّ البدراني، الواقع في الغرب من بلديتي الجارودية وأم الحمام، كان ذلك في بداية العهد السعودي، ففيه عرف الناس السيارة.
أما ما سبق ذلك فكان البحر هو السبيل المفضلة، لأنها الأكثر راحة وأمنًا، أما الطريق البري فكان – إلى جانب المشاقِّ والمصاعب – غير مأمون العواقب، لكثرة قطاع الطرق، فالقوافل لا تجتازه إلا في حماية قبيلة مرهوبة الجانب تتقاضى الإتاوات، ومع ذلك فلا ضمان للوصول الآمن، فلربما تعرضت القافلة لاعتداء القبيلة التي تحميها نفسها، أو ابتزازها في أحسن الأحوال[vi]، وهو حال شهرت به الصحراء منذ البسوس، وحتى نهاية الحكم العثماني، نختار من الشواهد قريبة العهد حادث النهب الذي تعرض له أحد أعيان القطيف وجهائها وهو جعفر بن علي بن أبي سنان، ورفاقه وكانوا في سفرٍ، فاعترضهم قوم من الأعراب فعاثوا فيهم نهبًا وسلبًا وقتلاً، فأصابته جراحات قاتلة، وبقي ملقى بين الأحساء والقطيف، فنقل بعد يومين إلى القطيف وبه رمق، فشُلَّت يداه معًا، وسقطت بعض أنامله[vii]. لهذه الأسباب وغيرها آثر الناس سلوك البحر، وإن كان لا يخلو من مخاطر، منها القرصنة، وهي كثيرة.
أول من وقفت على خبره سالكًا البحر سبيلًا إلى حج بيت الله الحرام، من منطقتنا هو الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني، من أهل القرن الحادي عشر الهجري، فقد اتخذ البحر سبيلاً إلى جدة، وبعد أن أدى المناسك، أبحر إلى اليمن، ومنها إلى الهند[viii].
الثاني من القطيف وهو فضيلة الشيخ محمد علي ابن الحاج حسن علي الخنيزي، قاضي القطيف الأسبق، كان سفره من ميناء القطيف في 14 شوال سنة 1324هـ، 20/11/ 1906م، من ميناء القطيف إلى البحرين بالسفينة الشراعية، ثم إلى جدة فينبع، ومن ينبع إلى المدينة على الجمال.
الثالث: هو الشيخ فرج بن حسن العمران، كان سفره بالبحر من القطيف إلى العقير، في ليلة الأحد 21 ذي القعدة سنة 1364هـ، ومن العقير إلى الأحساء على الأباعر، ومن الأحساء مكة المكرمة بالسيارة[ix]. وهذه السفرات لم تكن فردية بطبيعة الحال، كما إن هذه الموارد التي وقفت عليها ليست كل ما اشتملت عليه مصادر التاريخ، كما إن سفينة لن تسافر براكب واحد، وإنما هي محض دلالة على طريق سالك في الحج وغيره.
من هنا لن أكون مبالغًا، ولا مفتئتًا على الحقيقة إن زعمت موسمين كبيرين غير عاديين لهذا الميناء يحتشد فيهما الناس حجَّاجًا ومودعين، وكذا الحال عند إياب الحجيج.
تطبيق الحسبة في الميناء
الحسبة في الأصل: مصطلح فقهي إسلامي يقصد به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتُوسِّع في تعريفه كثيرًا حتى أصبح يُعرَّف بأنه: (رقابة إدارية تمارسها الدولة الإسلامية، بواسطة موظفين تعينهم للقيام بها، وتكون مهمتهم الرقابة على الأسواق لضبط المكاييل والأوزان، والأسعار، ومنع الاحتكار… إلخ)[i]، وتبع ذلك تأسيس دوائر، وسنِّ ضرائب للإنفاق على تلك الدوائر والموظفين فيها.
وبسبب خلو المدونات في منطقتنا من كتب الخطط، مثل نشوار المحاضرة، للمحسن بن علي التنوخي، وصبح الأعشى للقلقشندي، وخطط المقريزي، وما شابهها من الكتب التي تُعنى بالمجتمع وأحواله، أصبح من المتعذر على الباحث طرق مثل هذه الأبواب، في الحقب السابقة على زمنه، إلا عن طريق الوثائق كهذه الوثيقة العثمانية التي تضمَّنت بلاغًا صدر إلى ولاية البصرة بتاريخ 29 ربيع الآخر 1294هـ 13 مايو 1877م، يتضمن تعليمات مؤقتة بإجراء إصلاحات في منطقة نجد (نجد أينما وردت في المصطلح الإداري العثماني فالمقصود بها الأحساء والقطيف[ii])، بناء على ورود مذكرة خاصة من الإدارة العامة للرسوم، متضمِّنة بعض المعلومات المنظِّمة لكيفية استيفاء رسوم الاحتساب، التي يتم استيفاؤها عن كافة الأغراض (البضائع)، بعد مذاكرة جرت في هذا الصدد من لدن مجلس شورى الدولة، بأن يتم استيفاء رسوم على البضائع في جمارك البصرة مقابل سندات دفع لا تقبل لدى موظفي الاحتساب، ويقومون بأخذ رسم آخر من جدبد، وأن هذا التصرف معارَضٌ من الأهالي، ولأن أغلى أنواع الملح يتم الحصول عليه في هذه المنطقة؛ يصرف النظر في وضع ميناء قطر في المستقبل، فلا تستوفى الرسوم على البضائع التي تدخل البلد من البلدات الملحقة بالمنطقة عن طريق البر بشكل دائم، ولمدة ثلاث سنوات لا تؤخذ الرسوم على الأغراض الداخلة إلى البلد من البحر إلا التي تستورد من الخارج، فيتم استيفاؤها ولهذه الأسباب تقرر تشكيل إدارة للرسوم في مينائي العقير والقطيف، والموقع المسمى بالأحساء[iii].
—————–
([i])نظام الحسبة في الإسلام، دراسة مقارنة، عبد العزيز بن محمد بن مرشد، جامعة الإمام محمد بن سعود، المعهد العالي، للقضاء، ص: 14.
([ii]) التنظيمات الإدارية في إيالة البصرة خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر، علي شاكر علي، مجلة الخليج العربي، مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية، جامعة البصرة، العدد 35، ص: 129.
([iii])من وثائق الأحساء في الأرشيف العثماني (1288 – 1331هـ)، د. سهيل صابان، إصدار نادي الأحساء الأدبي، مطابع الحميضي، الرياض، الطبعة الأولى، 1430هـ 2009م، ص: 86.
([iv] )كتاب محظور تداوله في السلطنة العثمانية، مؤلفه عبد الرحمن الكواكبي.
([v] ) من وثائق الأحساء في الأرشيف العثماني (1288 – 1331هـ)، د. سهيل صابان، مر ذكره، ص: 122 – 123.
([vi])يوميات رحلة عبر الجزيرة العربية، جورج فورستر سادلير، ترجمة عدنان السيد محمد العوامي، مراجعة عبد المجيد سعيد الجامد، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1437هـ، 2016م، ص: 21، و65، 74 – 75.
([vii])ديوان أبي البحر الخطي، تحقيق عدنان السيد محمد العوامي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2005، جـ1/313.
([viii])ديوان أبي البحر الخطي، سبق ذكره، جـ2/372.
([ix])الأزهار الأرجية في الآثار الفرَجية، الشيخ فرج بن حسن العمران، دار هجر، بيروت، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م، جـ2/270.