أُشاهدُ مَوتِي .. وأَرتعِب
محمد الحميدي
فَلأكُن أنَا، ولتكُن أَنت، وليكُنِ الشاهدُ بينَنا، فالقبرُ رفِيق، والفرارُ مُحال، إذ لا يَنبغي الركونُ إلى القَشعريرَة، حيثُ غادرت الأرضَ الطيِّعَة، إلى أُخرى، أصلَب. أنتَ وأنَا، وثالثُنا الشاهِد، هَا نحنُ أُولاء، في مُواجهةِ الشَّمس، وأمامَ تِريَاقِها، فلتَهبِط، أَو فلنَصعَد، وإذَا شِئت؛ فلنَضَع شاهدَ القَبر، ولننتظِر.
السحابةُ ارتمَت، وهَيَجانُ المطَر، اندَلقَ علَي؛ فارتَويت، وتَناثرتِ العوالِق، عَن جَسدِي، أمَّا الوجُود، حينَ ظَننتُهُ انسرَب؛ عادَ والتصقَ بي، فلَم أَمكُث داخلَ البِئر، زُهاءَ فَجر، إلا ومَررتُ بأصعبِ تَجربَة، يمرُّ بها آدمِي، ثُم عدتُ إلى عَالمي، وبقايَاي؛ لِكي أستُرَني، وأستُرَ عُريَ العَالم.
لستُ ناقماً، بَل مُتعَب، ومَأخُوذ، فجَسدِي؛ لا يخونُ المصَائِب، ولا يُرتِّقُ فَتقَه، إلاكِ؛ أيَّتُها الشمسُ المُحبَّة، والنورُ الذِي يهبُ الحيَاة. أرفعُ رأسِي، ويَا لَلمُفاجأَة! وَعيِي تغيَّر. ليلةٌ واحدَة، بداخلِ البِئر، تُوازِي عُمرَ الأرض، والنجُوم، والكَون.
أفتحُ عينَي، فأرَى المحبةَ تطفُو، آخذُ في استِنشاقِها، حدَّ الامتِلاء، ثُم أتأملُك، مِثلمَا أتأملُ جَسدِي، وأُدركُ: الجسدُ قَارَّة؛ أسكُنُها، وأمنحُها الدِّفء، ثُم أُغادرُها؛ نَاحيتَك، فأنت تَجذِبينَني! أنَا المتيَّم، والسَّادِر، هربتُ من أنايَ إليك. آهِ، يا لِثقلِ الشاهِد، لا يَمنحُني الوَقت، أو يتركُني؛ لِأهدَأ.
أنزعُه، وأَنصبهُ فوقَ أرضٍ صَلبَة، ثُم أتأملُ النُّقوش، فأتذكَّرُ مَوتي، وموتَ البشريِّة، أشعرُ حِينذاكَ بالسعادَة، فأُغمضُ عينَي، لِئلا أنفضِح، فيأتِيني الهمسُ: لا تفتَح عينَيك، بلِ افتَح أناكَ الذابلَة، واجعلهَا تستنشقُ الشَّمس، فتقرُّحاتُ جَسدِك؛ زَالت، أمَّا أنَاك؛ فمسجُونَة، وعليكَ إطلاقَها، أَو ستندَم!
أرتبِك، وأرتدُّ بذاكرَتي العرجَاء؛ حيثُ وجدتُ الشاهِد، أوَّلَ مرَّة، حِينَها، ظلَّ الهمسُ يُخاطبُني؛ كَأخ، فأُدركُ: اليقِين؛ قِطعةٌ ذهبيَّة، لستُ أحوزُها، والشَّك؛ معدِنٌ صَلد، أحوزُ منهُ الكَثير! مَهمَا بَحثت، أجدُني فارغاً، والآن؛ بِتُّ أمتلكُ اليقِين؛ يقِيني ويقينَ العَالم، وخَلاصَه، أمَّا الشَّك، فيتستَّرُ بالظُّلمةِ الأبَديَّة.
أَو ستندَم، يتردَّدُ الصدَى، ويجوبُ صَحرائيَ القاحلَة، العينُ الثالثَة؛ تَرى الوردَ يتفتَّح، والأشجارَ تنمُو، وتتدلَّى فاكهتُها. عالمٌ جميلٌ! أراهُ بوضُوح، يتشكَّل، ويكبُر، ويَستلُّني من عدَم، هُنا حقيقَتيَ الغائبَة، هُنا أنَاي، هُنا تجلِّياتُ الذَّات، وإرهَاصَاتُها، ومَا جَسدِي إلا قَنطرةُ عُبور.
أيَّتُها الشَّمس، انتظرِي قليلاً؛ لأفرغَ من اكتشافِ اليقِين، الذِي يلُفُّ العَالم، ويلُفُّك، فالشكُّ عدُو، ووجودُهُ لا يَليق، في حُضورِك. أكتُب، ثُم أمحُو، وبعدَها أكتُب، ثُم أمحُو، كَأنَّ للشَّك؛ أُخوةٌ وأَخوَات، يرفُضونَ الرحِيل، ويسجُنونَ الذَّات. سأُحررُني، وأُحررُ العَالم، وأهبهُ ما يستحِق، فأنَا وحدِي، قادرٌ علَى ذلِك.
أُطلُّ وأسترقُ السَّمع، أمَّا ظِلِّي؛ فمُلتوٍ ومُتسربِل، حيثُ لا فرقَ – داخلِي – بينَ الظِّل، واللا ظِل، بينَ الحقيقَة، واللا حقيقَة. أَتظاهرُ بالسُّبَات، وأتفاجأُ بالهمسِ: ثمَّةَ جَوهرَة، لن تجدَها إلا بالمَوت؛ بموتِك، وموتِ أحاسِيسكَ ومشَاعرِك، ولا اسمَ لهَا إلا اليقِين.
أزِل الشكَّ وادخُل، لا تتوانَى، فالقبرُ مُتاح، وينتظرُ قُدومَك، بدأبِ عاشِق، خُطوةٌ واحدَة، واحدةٌ فقَط، وتجدُ جوهرَك، وأثيرَك، وهَيُولَاك، اُدخُل، سأكونُ رفيقَك، واترُكِ الشَّمس، يُمكنُها البَقاء، مُعلَّقَة، حتَّى المسَاء، أمَّا أَنت، فلن تجرُؤَ علَى المَكث، بينَ الموتَى. أسرِع، وأمسِك بيقينِك، قبلَ الفوَات.
أتوجَّهُ إليه، وأستلقِي، التُّرابُ يَتهاطلُ من الحوَاف؛ أُشاهدُ مَوتي، فأرتعِبُ! الهمسُ يَحثُّني علَى السُّكُون، ولمَّا اِنحشَرت، نَادانِي: الآن، أنتَ رهينُ العناصِر، وسجينُ الطبيعَة، ومصيرُكَ التَّلاشِي، فلا ترفُضِ الهِبةَ الممنُوحَة، وتقبَّل مَوتَك!
لا أشعرُ بجسدِي، اِضمَحَل، أمَّا رُوحِي؛ فأرَاها تُحلِّق، أينَ أنَا؟ لا مكَان، أَو زمَان، يحُدُّني. أتقبَّلُ مَصيرِي، وأقتنعُ بالنهاياتِ الفاجعَة، وأستسلمُ للموتِ والتَّلاشِي، حِينَها، أرَى الشاهِد، تتصَاعدُ منهُ النُّقُوش، وتتَّجهُ صَوبَك، أيَّتُها الشَّمس، وأكتشفُ الحقيقةَ الغائبَة.
الهمسُ: الآن، وقدِ اجتزتَ عتبَة، وامتزجتَ بالعناصِر، سترَى الأشيَاء، وتعرفَها، كَما لم ترَها، وتعرِفها من قَبل، فلكلِّ شيءٍ حقيقَة، لا تُشبه حقيقةَ الأشياءِ الأُخرى، ووحدكَ مَن يستطيعُ الرؤيَة، ويمتلكُ الحقَّ في المعرفَة، فأنتَ العرَّاف، والعالمُ بأسرارِ الخفَاء.
اِفتَح عَينَيك، لِيعودَ عالمُك، وتعودَ إلى الوجُود، فرحلتُك، تكلَّلَت بالنجَاح، وأصبحتَ تَرى، ما لا يُرى. أفتحُ عينَي؛ لأجدَني مُنحنياً علَى الشاهِد، وشمسُ الحقيقَة، تُشرقُ في أرجائِي، والنقوشُ تخترقُني، فأكتشفَ حقيقَتي، وحقيقةَ الوجُود، وأبلُغَ اليقِين؛ يقِيني ويقينَ العَالم، والعناصِر.