نَزع

محمد الحميدي

 

اِلبَس شفتَيك، واروِ شغفَك، فالظمأُ الأنطُولُوجِيُّ أحاطَك، بينَما تستَعِد؛ لِرميةٍ أخِيرَة، ضمنَ عالمٍ لا مَعقول، لا يَهبُكَ إلا الشتَات، والرطوبةَ الخانقَة، وأعلَى من قامةِ ظِل. أنتَ الراحِلَة، وجسدُكَ؛ احتِفالات، وغائِبون، وطائرُ عَنقَاء؛ ينبعثُ من رَمادِه، لِيسكبَ تِرياقَ الارتِواء، أيُّها العَطِش.

تقدَّم، فالخلِيقةُ تَهتف، والتَّحايَا مدَد، أمسِك برسغِكَ واقرَأ، فالتصاويرُ نافذَة، تُطل، ولا تكشفُ إلا العدَم، أمَّا الدلالَة؛ فهاربَة، وأبديَّة، ومُشتقةٌ من مرايَا؛ أصداؤُها تنهَلُّ من زمَن، تَوقَّفَ واستدارَ إلى الورَاء، ولم يعُد نافعاً؛ أَن يقودَ خطوَك، نحوَ المسافَات، فالأجلُ حَان، والهباءُ انمسَخ.

المسافاتُ آتيَة، والوجودُ اقتِحامٌ لِمستحِيل، يأبَى، ولا مفرَّ، إلا القبُول، والركوعَ أمامَ معرفةٍ ناضجَة، حَملهَا شاهدُ قَبر؛ كَحانَة، سَكَاراها، يا لَكَثرتِهم! ضائعُون، مُشتَّتون، ولا جامعَ لأبوابِهم، إلا دُخولُك. أنتَ وحدَك؛ مالكُ المعنَى، وكاشفُ الدلالَة، والرَّاعي لأغنامِ اللغَة.

مَبهوتاً، علَى مقرُبةٍ من النافذَة، تُطلُّ ولا ترَى، قدمُكَ تزِل، ولم تزَل تنتظرُ السُّقوط. تُحرِّكُ رِجلَك، وتضعُكُ خارجاً، ثمَّ تنحُو إلى الداخِل، بنظرةٍ أليمَة، وغرائبيَّة. كيفَ لعينَيك؛ أَن تريَا، وأنتَ لا تمتلكُ جَوهرتَين، كَالبقيَّةِ! تجولُ أرجاءَ البِئر؛ تتذكَّرُ الموتَى، وشاهدَ قبرِك، وهَا تحمِل أثقالَ الآدميِّين، علَى كَتفَيك.

تُحاولُ نزعَ أنَاك، من أنيابِ البِئر، وشراسةِ الخُواء، فالهدايَا، قدَّمَها الموتَى، وأغروكَ بالبقَاء، وحدَك، يا مَن رفضتَ العدَم، وآثرتَ خوضَ الوجُود، بعيداً عن اللذَّة. وحدكَ أنجزتَ العبُور، وهَا تخرجُ من التَّيه، والشتَات، وبقايَا العُفونَة، ونِداءِ الأنَا.

نِزاعٌ حَاد، وقشعريرةٌ ساريةٌ قربَ عظامِك، حينَ ينوحُ أنَاك، ويهتَز، ومشاعرُكَ تفيضُ بِلا شَيء، وتهربُ منك؛ إليك، ولا تصلُ حدَّ الطمَأنِينَة. الأسَى؛ لا ترَاه، يملأُ أوديتَك، ويجولُ حولَك، وينسِفُ تاريخَكَ البربَري، ولا هَم؛ إلا إسقاطُك، وإفراغُ ما فيك، وجرُّكَ إلى البقَاء.

اِنزَع أنَاك، وتخلَّص من كَوابيسِك، ومآسِيك، واسلُك طريقَ الأبديَّة، حيثُ الشعُور؛ خادِع، والمسافَات؛ تتقلَّص، دونَ جدوَى، ووحدَك، تعلمُ الحقيقَة، وتدركُ أسرارَها، وأنتَ صامِت، وصَلد؛ تراقبُ الريَاح، ودورانَ اللهَب، ولا تتحدَّث. سرقَتكَ أنَاك، واستعبدتكَ اللذَّة، وانبهرتَ برائحةِ الدهشَة، فاضطرَبت، وتجمَّدَت قدمُك.

لماضِيك، تعودُ الذكريَات، وتنهمرُ التصَاوِير، شاخصَة، بينَ ذراعَيك، تُسندُها أرملَة، قَتلَت زوجَها، ثمَّ اشترَت ببقايَاه؛ هواجسَ لم تعتَدهَا، وأحلاماً غيرَ مَعهودَة، وطعماً مُختلِفاً للحيَاة. أتَيت، وحطَّمتَ كِبرياءَها، وكشفتَ الزَّيف. أيَّتُها الفتنَة، فلتهرُبي، سأُلاحقُ النيازِك؛ لأمسكَ أذيالَك، أمَّا المدائِح، فسأُحرقُها.

رِجلٌ تحترِق، ورِجلٌ مغروسةٌ في الماء، ومَا بينهُما؛ عواصِف، ورعُود، وبَرق، ومسارَات، وأنَا. عبثٌ مَحض، ورغوةٌ ممجُوجَة، قذفَتها التنَانِين؛ فانتصرَت – لِنفسِها – بالمطَر. لا أرَى الحقيقَة، ولا أعرفُها، فكلُّ ما فيَّ اختلَط، والمعرفَة؛ تَركَةٌ ثقيلَة، ومُهملَة، ورثتُها، وعليَّ إِرواؤُها.

أتمهَّل، وأكشطُ الوَحل، فرِجليَ العالقةُ بداخلِ بِئر، تئِن، ولا تستجِيب، أُحاولُ رفعَها، فأترنَّح، لا أتصالَب، وأُوشكُ علَى السُّقوط، فتُنجدُني يدِي، وتتمسَّكُ بالأملِ، وتنزعُ ما تبقَّى من الوَحل؛ لتساعدَ رِجليَ البائسَة؛ كَي تخرُج، وتمتلكَ حريةَ الدورَان، والحركَة، والدلالَة.

أنَا الآنَ أقوَى، وأنشَط، الجسدُ المُتقرِّح؛ ليسَ عائقاً، فالرحلةُ ابتدأَت بالسُّقوط، وهَا تنتَهي بالصُّعود، ومَا بينَ السُّقوطِ والصُّعود، ثمةَ مرايَا، وأضرحَة، وتوابِيت، وشاهدُ قَبر. أقرأُ الطوالِع، وأنتظرُ النجُوم؛ لتهبَ الحقيقَة، لي وحدِي، أنَا مَن يستحقُّها، ويحسنُ فكَّ شِفراتِها.

أيُّها البِئر، أَنتزعُني وأهرُب، خارجَ حُدودِك، فالرؤيةُ؛ أوضَح، والمسارَات؛ ليسَ تُفضِي إليك. الآن، فلتكُن وحدَك، ولتعشقِ الصمتَ، ولتنتظِر ألفَ عَام، ريثَما يأتِي آخَر، كَي يسقُط، ويُعيدَ اكتشافَ الحقيقَة، وتأويلَ المُفردَة، وصياغةَ الوجُود.

أنغمسُ بماءِ المطَر، وأستهلُّ الخُروج؛ بإزالةِ العوالِق، والأصفَاد، ثمَّ أنتصِب، وأفتحُ عينيَّ للشَّمس؛ لأرَى، وأكتشفَ العَالم، كَما لم أرَه، مُنذُ الأزَل. أنَايَ حُر، ولا قيدَ أشكُرُه؛ ليذهَب. اِنتصَرت، وغادرتُ الجحِيم، تُرافقُني؛ حقيقَتي، وحقيقةُ الوجُود، ودهشةُ امرأَة؛ نَبتَت كَالمعرفَة، بِداخِلِي.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×