الشاعر هادي رسول يعترف: وقعتُ في الفخ نفى معرفته بـ"نخبوية القراء".. وكشف تفاصيل "حافة الأبدية"
القطيف: بيان آل دخيل
بعد أربع سنوات من التوقف والتأمل، يُراهن الشاعر هادي رسول على ذيوع إصداره الثالث “نداء على حافة الأبدية” الصادر قريباً عبر دار “مدارك” للنشر. ويؤكد هادي أن هذا الرهان ليس لسبب سوى أنه ضمّنه تجربة مختلفة، تميل إلى السرد المتوشج بالشعر، فضلاً عن أن الإصدار هو نتاج خلوة مع الذات وعزلة روحية أكثر نضجاً، بعد عملين سابقين؛ وهما “نبوءة الطين 2013″، و”مخط القلادة 2016”.
هادي استبق إصدار “نداءه”، وتحدث لـ”صُبرة” في حوار مطول، يتناول تجربته الشعرية؛ البدايات والمراحل الفنية التي مرت به وأثرت فيه، متطرقاً إلى أهمية التاريخ في حياة المثقف والأديب، وأجاب عن السؤال الشائك حول “أهمية النقد للشاعر”، قبل أن يعرج على نوعية القراء الذين يقرض الشعر من أجلهم، مُعترفاً بأنه لا يعرف من بين محبي الشعر “نخبة” يستهدفهم، وقال: “أسجل رؤيتي عن العالم والحياة والوجود، وإن كانت رؤية جيدة وناضجة، ستصل لقارئ ناضج يستطيع قراءتها والتفاعل معها”.. وهنا نص الحوار.
وجه السَّارد
ـ في البداية نبارك إصدارك الجديد ونترقبه بشوق.. قلت سابقاً أن التجربة في هذا الإصدار تعد مختلفة عن باقي أعمالك، كيف جاءت مختلفة؟ وبماذا تصف لنا تجربة التعاون مع دار “مدارك”؟
مختلفة لأنها سردية بالدرجة الأولى، وقد عُرِفتُ شاعرًا، بينما في هذا المشروع يظهر وجهٌ مُغايِر لي، وهو وجه السَّارد، لكنّ السَّرد جاء متواشجًا مع الشعر في الكتاب، وكأنهما يُنازعاني روحي ويتقاسمان حالتي اللاشعورية. فما لا يستطيع أن يمسّهُ السّرد استأثر وتفرّدَ به الشعر، وما لا يجسّهُ الشعر حاول السرّدُ أن يطاله. ومختلفة ثانيًا لأنّ نضجي الأدبي يتطور عابرًا مراحله الفنية، ويتجاوز مرحلته السابقة.
فيما يتعلّق بتجربة النشر مع “مدارك”، فإنّي هنا أوجه شكري وتقديري للأديب الرائع إبراهيم آل سنان بصفته مدير النشر في “مدارك”، لما لمسته من أول اتصال من أخوية عالية فرضت حميميتها الصادقة أثناء متابعة مراحل طباعة ونشر العمل، وشفافية عالية ووضوح تام حول عملية النشر في “مدارك”، بالإضافة إلى توقيع العقد ببنود واضحة وشفافة، تحفظ حق المؤلف ودار النشر على حد سواء.
حقيقة النعوت
ـ وصفك مدير نشر دار مدارك بالنجم الصاعد في سماء الشعر، كيف تعلق على وصفه، هل يعبر عنك؟
نحن لا نملك أن نقيّد تمامًا نعوت الآخرين لنا، فالبعض قد يرى فينا ميزة قد لا يراها آخر، أو آخر قد يرى أننا تجاوزنا هذه النعوت، ليس مهمًا أبدًا، المهم أن ندرك حقيقة هذه النعوت ولا تجرفنا إلى الزهو السلبي أو نتعالى عليها، المهم ان نعمل على مواصلة هذا الدرب الطويل والشائك في عوالم الكتابة الإبداعية.
أقول أيضًا: ربّما التصقت بي صفة الشاعر التي بقدر ما أعتز بها، فإني أهابها كثيرًا، فالشعر مغامرة وجدانية وفكرية وفلسفية، وليست نزهة عابرة. ودائمًا يلازمني هذا السؤال “هل فعلًا ما أكتبه شعرًا؟” السؤال الذي يلحُّ عليّ ببواعث القلق اللامنتهي.
الأوزان الشعرية
ـ في وصفك، أن هناك مزجاً بين الشعر والسرد في الإصدار، كيف تصف هذه التجربة؟ وهل لا يزال هناك من هو متعصب لبعض الأوزان الشعرية؟
قبل أن أجيب، سأستعير عبارة جميلة للكاتب والأديب المغربي عبدالإله بلقزيز حين يقول: “بحثتُ عن طعمِ القصيدةِ في غيرها، السردُ صنوها حين يتبذّخُ في البلاغةِ، و ضُرّتُها”
السرد في الكتاب ربّما جاء بنَفَس روائي، ولكن خارج معايير الرواية. بالإضافة إلى أن بناءه العام يرتهن لفنيات المجاز، التي هي لعبة الشعر أيضًا، ومُكتنَز بالتأمّلات الخاصة التي تعبّر عن الرؤية السردية في هذا الكتاب، لذلك لم يكن صعبًا ولا نافرًا أن يتّسِقا ويتواسقا في نسيج أدبي يمثلان مشروعًا واحدًا.
بخصوص الجزء الثاني من السؤال وحول التعصب، وأظنك تقصدين التعصب للأشكال الشعرية بتعبير أدق، فهذا التعصب والانحياز لم يُغادِر المشهد الأدبي، منذ ظهور أشكاله المتعددة. لكنني أقول لا يهمني هذا التعصب ولا أعيره اهتمامًا كثيرًا، اللغة الأدبية الجيدة التي تتوفر فيها فنيّات الشعر وبلاغته تُشير إلى ذاتها بذاتها، سواءً كانت في قالب عمودي خليلي، أو إيقاع تفعيلي، أو ثوب نثري خارج شروط الوزن والقافية، فالشعر لا يتم البحث عنه، فهو إما يكون موجوداً أو غير موجود، كما يقول: قاسم حداد، بعيدًا عن وضعه في قوالب تقيّد له شكّلًا أو تحصر له مادة.
فكرة المشروع
ـ كيف كانت بدايات أول تدوينات في هذا الإصدار؟ ومنذ متى تحضر لهذا الإصدار المختلف وكيف أتت فكرة تجميع النصوص في كتاب؟
بدأ الخيط الأول لفكرة هذا المشروع قبل أربع سنوات، لكنه توقّف بسبب ظروف والدي الصحيّة – حفظه الله-، فالكتابة تحتاج إلى صفاء ذهني بعيدًا عن فوضى الروح وعكرة المزاج، عدتُ إلى المشروع في الأشهر الماضية بخلوة مع الذات وعزلة روحية استطعت خلالها إنجازه وإتمامه، فالأدب لا يستقيم إلا بالخلوة كما يشير إلى ذلك الروائي الليبي إبراهيم الكوني. ولعلّ فترة الانقطاع التي اضطررت لها أتاحت للمشروع أن يتبلور وينضج أكثر.
مرحلة زمنية
ـ كيف تعرف نفسك، من هو هادي؟
في كلّ مرحلة زمنية وإبداعية لنا إدراك خاص لأنفسنا متطوّر عن المرحلة التي سبقتها.. وربّما أكون في هذه المرحلة الآنية “نداءً على حافّةِ الأبديّة”
“نداء على حافة الأبدية”، العنوان مميز ومختلف ويطرح تساؤلات عدة .. نجحت سابقاً في “نبوءة الطين” ٢٠١٣ و”مخط القلادة” ٢٠١٦.. تجارب مختلفة وعناوين مشوقة.
أحرص باهتمام بالغ على اختيار العناوين لأعمالي، في العنوان يتكثّف كل النص المكوّن للمشروع، ويحمل دلالاته الضمنية، وأيضًا هو الخيط الدقيق جدًا الذي يربط مكوّنات النص ورؤيته الفنية و الفكرية.
نداء استغاثة
ـ “نداء على حافة الأبدية” كيف يكون للأبدية حافة؟ هل هناك حد فاصل في الأبدية؟ وكيف تصف الوقوف على حافة الأبدية؟ وما هو النداء، هل هو نداء استغاثة؟ ومِن ماذا؟ ولمن؟
ربما تتعسّر الإجابة كثيرًا حول سؤالكم عن “حافة الأبديّة”، لأن الإجابة ترتهن للغز المجاز، المجاز الذي يرتهن لفنيّات اللغة، اللغة الأدبية التي لا يمكن أن تخضع للمنطق.
لذلك، فإنّ “حافّة الأبدية” ليس مكاناً واقعياً، وإنما هو مكان تخيّلي لا ينتهي والوقوف عليه هو وقوف تخيّلي أيضًا، ولا نستطيع التعبير عن التخيّل إلا بأدواته، ولعلّ أهم أدواته لُغة المجاز. التخيّل الذي يعتبره أنشتاين أحد أهم صانعي المعرفة في القرن العشرين أنه أهم من المعرفة نفسها.
أمّا عن “النداء” … فهذه الأسئلة التي انقدحت لديكم وربما لدى القارئ عن مفهوم هذا النداء في العنوان لعلها وليدة الدهشة، وهذه الدهشة هي مفتاح الفهم كما يشير إلى ذلك غاستون باشلار بقوله: “اندهش أولًا وبعد ذلك ستفهم”… لذا فإنّي أعوّل على دهشة المتلقي ليستل خيوط النداء من نسيج هذا المشروع الذي عملت عليه.
قصة إنسان
ـ “لا الأرض هي الأرض ولا السماء هي السماء”، للنص الذي اخترت أن تشارك به قراءك وغير قرائك كهدية حميمية خاصة .. هي قصة إنسان (تناقضات، انتماء، تمرد)، “القرية فردوس وبرزخ”، كيف هي علاقتك بالتاريخ وكيف يلهمك؟
التاريخ ذاكرتنا التي لا نريد أن ننساها… لذلك كلما تقادمَ بما الزمن، حملنا معنا تلك الذاكرة العصية على النسيان التي نحملها كتاريخ، لكن الأديب يستحضر ذلك التاريخ لا كواقع تقريري، إنما كظل واقع، بعيدًا عن الوثائقية الإخبارية، يمنحه رؤيته الشخصية، وتأمّلاته الخاصة، ويُغذّيه من روحه الشاعرة.
الوقت والمكان
ـ “سردية الوقت في ذاكرة الغياب” عن أي غياب يشاركنا هادي؟
غياب الوقت والمكان… غياب الذاكرة، وغياب الإنسان.
مستوى الإدراك
ـ في مقابلة سابقة مع الزميل جمال الناصر في “القطيف اليوم” ٢٠١٨ قلت أن إدراكك بأنك صاحب موهبة حقيقية وجدت أنه يجب أن تأخذ هذه الموهبة طريقها إلى الخارج. يخطرني سؤال، لمن نكتب؟ ولماذا؟ وكيف تأتي أهمية القارئ ونحن نعلم جيداً أن القراء يتفاوتون في مستوى الإدراك والفهم؟.
يرى الناقد العراقي فورزي كريم أنّ الشاعر الجيّد ينطلق للكتابة من معتركه الداخلي، أراني شخصيًا مؤمنًا برأي فوزي كريم، الشاعر أو الأديب يذهب للكتابة لأنّ لديه وعيه الخاص الذي يغذّي رؤيته الإبداعية التي تحاول فهم هذا العالم، ومن لا تكون له رؤية خاصة لن يكون له قارئ جيّد أو نوعي.
رؤية ناضجة
ـ هل نستطيع القول إن هادي يكتب لنخبة معينة ؟ وما هي؟
من هُم النُّخبة؟ أنا لا أعرفهم… وليسَ مهمًا أن أعرفهم. المهم أن أكتب رؤيتي عن العالم والحياة والوجود، هذه الرؤية تعبّر عن ذاتي أولًا … فإن كانت رؤية جيدة وناضجة، ستصل لقارئ ناضج يستطيع قراءتها والتفاعل معها.
تجربة خاصة
ـ ومن ذات المقابلة السابقة، تحدثت عن “الإحماء” عبر القراءة.. من هو أكثر مؤثر على شعر هادي؟ وكيف؟
كيفَ لمن لا يقرأ التجارب المختلفة للأدب والفكر في عصورهما المتلاحقة وأممهما المختلفة أن تكون له تجربتهُ الخاصة؟
انعدام القراءة ملازم لانعدام التجربة. القراءة أولاً وثانيًا وثالثًا … إلى أن لا تنتهي الأعداد و لا تنحصر الأرقام.
التصرف العفوي
ـ قلت أنك في بداياتك كنت تضع المتلقي نصب عينيك عندما تبدأ بالكتابة.. ألم يظلم هذا التصرف العفوي أشعار بداياتك؟
هي المرحلة الأولى التي ننطلق فيها متحمسين للموهبة، متحسسين بواعثها، فنظن أنّ الجمهور هو معيار التفرّد في التجربة، إلى أن ننضج، فندرك أننا وقعنا في الفخ، ولا بد من الخروج منه.
النقد الشعري
ـ أين وصل النقد الشعري اليوم؟ هل يحتاج الشاعر أن يؤجر ناقداً ما ليقرأ له وينتقد نصوصه بمصداقية؟
السؤال عن النقد سؤال شائك، وربما الخوض فيه يثير حساسية من يتلبّس اللباس النقدي. لكنني سأشير بإيجاز. هناك تجارب نقدية في بلادنا حاولت وتحاول أن تتعامل مع الظواهر الابداعية باشتغال لافت، وهناك من يمارس عبثه ولغوه تحت مبررات نقدية.
مخط القلادة
ـ بالأخذ بعين الاعتبار أنك جربت المواد الصوتية في “مخط القلادة” ، هل تفكر بإعادة التجربة ؟ ربما عبر مواد صوتية من الإصدار الأخير؟
“مخطّ القلادة” مشروع تشكّل كمشروع صوتي بالدرجة الأولى… لكن ذلك قد يتحقق في أي مادة أدبية قادرة على إنتاج نفسها بكثافة اللغة وحساسية الصورة.
القراءة الصوتية
ـ هل يعني ذلك أنك قد تقرأ بعض نصوص الكتاب صوتياً وتنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي؟ أم أن لك رأياً مخالفاً حول القراءة الصوتية في غير مناسبة للشعر؟
في رأيي، إن لذة هذا الكتاب في قراءته بالدرجة الأولى، لا بسماعه، وإن كانت فيه من المقاطع السردية والشعرية ما يمكن أن يكون مادة صوتية، أعتقد أنها ستكون رائعة لو تم إخراجها صوتياً، لكني أميل جداً أن أحافظ على لذته كمادة مقروءة، وأبقي احتمالية تنفيذ بعض المقاطع صوتياً للزمن، بل أضيف: إن المادة السردية في هذا الكتاب قادرة أن تكون صورة سينمائية فضلاً عن كونها مادة صوتية.
وبخصوص الجزء الثاني من السؤال؛ فإن ما أود أن أشير إليه: إن قارئ “نداء على حافة الأبدية” قد يجد نفسه في الكتاب، تحت اسم مختلف ومكان مغاير، ولكن لإنسان واحد في أرواح متعددة.
العلاقة بالأصدقاء
ـ كيف هي علاقتك بالأصدقاء بشكل عام؟
علاقة المُحب الذي يشعر أنه دائمًا أنه مقصّر مع حبيبه. الأصدقاء وجود لا غنى لنا عنه.