لو نأيتُ.. لاحترَقت

محمد الحميدي

 

المرايَا حِصارٌ خَانق، والشعورُ بالتلاشِي، باتَ قريباً من العدَم، والوجودُ زجاجةٌ فَارغة، عليَّ مِلؤها من الصِّفر، ها أنا أعبرُ المرايَا، ولا أرَى، فالحقيقةُ هَاربة، وعليَّ إيجادُها، وتَدجِينُها، لِئلا تَفر، ولا أحسنَ من العتمَة، فالضوءُ يكشفُ الوجُود، ويكشِطُ ناصيةَ الغَيب، ويتلألأُ بداخلِ الجسد.

ما عُدتُ أشعرُ بقدمَي، أهبُ أُمنياتي للمرايَا، وأهبُّ لتنفيذِها، والعائقُ الأكبرُ ليسَ أناي، فالبُقعةُ بي، اِلتصقَت، وتلاحمَت بِالجسَد، أمَّا الفائضُ من المشَاعر، فقريباً يَؤُولُ لِلعتمَة، لِيجلسَ بجوارِ الحقيقَة، على كُرسيِّ الاعترَاف، ما أسعدَ الفَار! لا شيءَ يُوقِفُهُ عن المسِير، ولا أحدَ عرفَ حقيقةَ أناه.

كآخرينَ عَابرين، مررتُ وما من رُؤيا بِداخلي، إلا تلكَ النقطةَ المضيئَة، حيثُ تَعاظمَت، وانتشرَت؛ تآكلتُ من الداخِل، وانبجستِ الرُّؤى، دونَ تمييز بَعدها، لا يعودُ القرارُ لي، وليسَ لواحدٍ آخر، فسكانُ العالمِ أنبياءُ ذواتِهم، ولكِن أضاعُوا النُّبوة، حينَ التصقُوا بالتُّراب.

أرتفِع، وأرَى، ما حُجبَ عنِّي سابقاً، أراهُ بكلِّ وضوحٍ الآن، فالعتمةُ الباهرةُ جاهزةٌ لالتهامِ المرايَا، إذا غاصتِ الأقدَام، وتلوَّثت بالوحُول، طريقةٌ غريبةٌ للعَيش، إزاءَ حوادثِ الكَون، فكلُّ خاتمَة، تَشي بولادةٍ ناتئَة، من لا شَيء، والشهودُ همُ الشُّهود، في الخِتام، أو الابتِداء.

فلتكُن، تلكَ ريحٌ هوجَاء، تمرُّ بمرارَة، وتكسرُ شوكَ النَّبتةِ الثَّملَة، فالعالمُ المصنوعُ من دُمى، لا بدَّ لهُ من رُوح، ذاتِ هَسِيسٍ يعلُو، ولا يوقِفهُ حَد، وأمَّا الدُّمى الحقيقيَّة، فهيَ تقبعُ خارجَ المرايَا، وتستأنفُ رحلةَ التشوُّف بمفردِها، إلا واحدَة، تُعلِّقُ آمالها على خَشبةِ المسرَح، وتندمجُ بالمشهَد، ولا تعُود.

الأبديَّةُ الضَّاغطُة، والأزلُ المنتَمي للعَدم، كِلاهما فقدَ المعنَى، وانزاحَا عنِّي، فالرُّؤيا لا تَأتي من المستقبَل، أو الماضِي، إنَّما تَنبعُ من الوردةِ المُلتصقةِ بي، وأنا بينَ هاتينِ الجدليَّتين، أعيشُ رازحاً تحتَ القُيود، والأصفادُ الموصدَة، تُطبقُ شَراستَها، عليَّ، والهروبُ مُستحيل.

فلتقِف، ولتُخبرِ العالمَ البائسَ عن تَجاربي، أيُّها المسرحُ المرِح، ولتُدمِ القُلوب، التي تُدمنُ النَّظر، فلولا الوردَة، ما استطعتُ الرُّؤية، ولا امتلكتُ القدرةَ على استنباتِ الأمَل، وأنت، مَا أنت! تُلوِّح لي، بينما رجلايَ ترتفعَان، مَع كلِّ خَطوة، وخَطيئةٍ أخطُوها، فالبعدُ عن الأرض، ومزاولةُ الحُلم، لا تُغتفر.

هُنا أُصابُ بالرَّعشَة، وأرتجفُ خوفاً، فالمفاهيمُ تَسقط، وعباءةُ التَّخفِّي، لا تسترُ العُري، طَالما آمنتُ بك، وهَا أنا أؤمنُ بي، والقوةُ الوحيدةُ القادرةُ على زَعزَعةِ إيماني، باتَت راحلَة، نحوَ الأسفَل، والأشلاءُ التي انتظرتني، ألفَ عَام؛ لكَي أتكوَّر، وأنمُو، تُراقبُ حركةَ النُّجوم، وتقرأُ الطَّوالع، وتهيمُ حُباً بوجُودي، أ لستُ العرَّافَ الأخِير؟

ليستِ الحوادِث، والنوازِل، والبلاءَات، سِوى أقنِعة، تتلبَّسُنا، فالقدرُ حَتمي، مِثلما المشيئةُ حَتم، ولا يُفلتُ المرء، ولَو أرَاد، إلا أَن يكونَ صاحبَ مشيئةٍ أعلَى، وقدرٍ مُختلف. مَا زلتُ أسكنُ وهمَ المرايَا، وسجينَ العينِ الثَّالثَة، التي تَرى الداخِل، ولا تكتشفُ المعنَى، إلا عبرَ صِياغتِه، وعرضهِ علَى الأنا، أمَّا الخَارج، فوهمٌ أعظَم، وقِبلةٌ لا أتوجهُ نحوها.

أَسير، فأُحسُّ بالارتفَاع، كُلما مددتُ قدمَي، اِرتقَيت، لا سبيلَ للرجُوع، الخلفُ مخلوقٌ مُشوَّه، ينتابُنا الخوفُ عندَ مُواجهتِه، وأنا لَن أعُود، لستُ خائفاً، ولكنِّي، أعرفُ مَصيري، فالحياةُ ليسَت نُقطةَ ارتِكَاز، بَل نهايةَ صفحَة، وبدايةَ كتابٍ آخر، واليَوم، أخطُّ أُولَى أسطُرِ المعَاني، وأنسدِل، بداخلِ قائمةِ الوجُود، ومَا قبليَ إلا عدَم.

التَّاريخ، كوكبٌ فَاره، ومُتأرجِح، يميلُ نحوي، أو نحوَ آخر، ولا يضبطُ إيقاعَ تأرجُحِه، إلا الأقنِعة، فحينَ تتلبَّسُنا، وتستهدفُ وجُودنا، يصبحُ القدرُ حَتمي، ومشيئَتي هيَ النافِذة، وهَا أسيرُ وحدِي، والظلالُ تُرافقُني، والعدمُ المخبُوء؛ ينكشفُ رُويداً، أمامَ سُلطةٍ أعلَى، لا يمكنُ مُقاومتُها.

الحوادثُ انصهرَت، كتدحرجِ الكُرة، تلتفُّ وتلتَف، فتلتَقي نهاياتُها ببداياتِها، وأنا المركزُ النَّابض، والخُيوطُ تلتمُّ بينَ يدَي، أُشاهدُها، وأنسجُها لُفافةَ تِبغ، وأنفثُ الدخَان؛ ليبتعدَ الهبَاء، ويمتلئَ الخُواءُ بالمعنَى. أرسمُ المستقبَل، وأمحوَ الماضِي، وأضعُ قدميَّ علَى الهوَاء، ولا أسقُط.

مَع كشفِ المعنَى، أكتشفُ تواطؤَ القدَر، والمشيئَة، وأستنتجُ السَّبب: الحَتمِيَّةُ. لا مناصَ آتية، ولَو نأَيت؛ لاحترَقت. الحَتمِيَّةُ التي لا بدَّ منها، سلكَت بي، نحوَ أقدارٍ غريبَة، ورحلةٍ باذخَة، تكلَّلت بالمشي علَى الهوَاء، والرؤيةِ بعينٍ عميَاء، والأهَم؛ إعادةَ كتابةِ الأشيَاء، وتسميتِها، فأنا الآنَ أُولد، من جَديد.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×