[ميناء القطيف 6] شوارع القطيف الريفية كما شاهدتها “شريفة الأمريكانية” قبل 97 سنة "تغريزة" سيارة في بركة موحلة.. و20 فلاحاً لإنقاذها

يستأنف الباحث عدنان العوامي عرض السيرة التي كتبتها المبشرة الأمريكية كورنيلا د ألنبرج المعروفة بـ “شريفة الأمريكانية” في جولاتها في القطيف سنة 1923، لعلاج المرضى.

وفي السرد تتضح معالم القطيف الريفية والصحراوية في ذلك الوقت..

[من أوراقي 6]

ميناء القطيف

مسيرة شعر وتاريخ

عدنان السيد محمد العوامي

لم تكن الشوارع أكثر من ممرَّات لعبور الحمير، أي إن الحاكم لم يستطع أن يحسِّنَها كثيرًا، حتى الجزء الأول من الرحلة كان يمرُّ خلال حديقة من النخيل، حيث انتشرت مستنقعات الماء على الجانبين، وقد صادفْنا حُفْرةً مليئة بالماء والطين، ولذلك وجدنا أنفسنا ملتصقين([i]) في الأرض، ولم يستطع السائق العربي أن يخرجَنا منها، فنزلتُ – أنا والممرضة – في محاولة فاشلة لدفع السيارة، ولكن مجهودَنا ضاع سدى، والنتيجة هي أن السيارة غاصت أكثر في الطين، فهرَع أحد معاونينا من الصبية إلى القرية المجاورة، ورجع ومعه أكثرُ من عشرين رجلاً حرَّكوا السيارة، بل رفعوها من مكانها خلال دقائق معدودة، وتابعنا الرحلة، وخلال طريقنا كنَّا نقف عند بعض القرى داخلَ مزارع النخيل، إلا أننا في النهاية وصلنا إلى الأرض الصُّلبة عند أطرافِ الشاطئ، حيث أصبح سير السيارة أكثر سهولة.

وصادفنا في رحلتنا بناية يبدو عليها – في مظهرها الخارجي – بأنها تستعمل لغرض حكومي أو رسمي، كانت قابعة على جزء ناتئ من الأرض الممتدة في البحر. لم نكن نعهد أيَّ مبنى بهذا الشكل سِوى ذلك المبنى الخاص بالجمارك([ii])، وبينما كنَّا نحاول التعرف على ماهية هذا المبنى لمحنا مجموعة من الرجال يَجْرُون نحونا، فخفنا منهم للوهلة الأولى، ولكن عندما اقتربوا منا لحظنا بأنهم لا يحملون أيَّة أسلحة، وإن كانت الشمس تنعكس على شيء معدني يحملونه فانشدَّت عضلاتُنا من الخوف، وتذكرنا قصص  القراصنة، وتيقنت بأن قدومنا لم يكن عملاً جيِّدًا، وكان من الأفضل لو حضر معنا الدكتور هاريسون، وأخيرًا وصل الرجال، وتبينَّا أن معهم صينية عليها أكوابٌ صغيرةٌ وقِدْر به ماءٌ مغلي، وأربع دَجاجات حيَّةٍ في سلَّة، لم يكن ذلك غزوة حرب، بل كانت عملية ضيافة.

لم نستطع أن ننتظر ذبح وطبخ الدَّجاج، بل شربنا الشايَ بسرعة، وعلَّقنا السلَّة التي تحتوي على الدجاج على طرف السيارة، وتابعنا سيرَنا إلى وُجْهتنا، ووعدنا الرجال بالعودة إليهم لعلاج مرضاهم. بلغنا وجهتنا مع الغروب، وعلى الرغم من شدة برودة الجو إلا أنَّ حشدًا من الأطفال وقَف ليتفرج علينا، فهم لم يروا سيَّارة من قبل، وكذلك لم يروا امرأة أورُبيَّة أو أمريكية من قبل، ولما سأل أحدهم عن اسمي وأجبته؛ تناقل هذا الخبر إلى الصفوف الخلفية، وسمعت اسمي في كل مكان بعد ذلك.

كانت هناك غرفة مفروشة بالسَّجاد الفارسي، ووضع بها موقِدَي فحم لتدفئة أيدينا، وبعد قليل أحضِرتْ إلينا الصينية وعليها الأرز والخضار، ثم حضرَت ربة المنزل – مضيفتنا – وهي في قمَّة غضبِها. كانت تحمل في يدها رأسَ دَجاجة، وأعلنت بأنها كانت قد طبخت الدجاجة استعدادًا لقدومنا، إلا أن الخدم – لعنة الله عليهم – قد أكلوها، ولم يبق سوى الرأس، ولذلك ألقت بالرأس في المرق الذي أمامنا لنأكله.

وهكذا انتهت أولى جولاتنا بعيدًا عن القطيف، وكنَّا – من شدة البرد – نستطيع أن نرى أنفاسنا تتكاثف على المصابيح، وحمِدنا الله على أننا أحضرنا معنا الأغطية الدافئة التي حمتنا طيلة إقامتنا هناك.

 

وبعد عدة أيام أتتنا فرصة أخرى لنتوغَّل داخل الصحراء، فقد طُلِبنا من قبل أحد الشيوخ لنرى أحد مرضاه، فقد كان – كالعادة – أحد أغنى الأغنياء في هذه البقعة قد خرج للنزهة مع عائلته في الصحراء للاستمتاع بالأزهار البرية والخضرة التي عادةً مَّا تنمو في مثل هذا الوقت من العام، خصوصًا بعد هطول المطر النادر. وركبنا الجمال؛ لأن الرحلة كانت داخل الصحراء. جلسنا في وضع جانبي على الجمل لأن تلك كانت عادتنا إذا ما كانت الرحلة قصيرة، أما في الرحلات الطويلة فكنا نلبس الثياب الفضفاضة، ونركب الجمل كالرجال.

وصلنا إلى مخيم الشيخ بعد ساعة ونصف الساعة من السير على الجمال, وذكَّرنا المشهد بالنبي إبراهيم وإسحاق في خيامهم المصنوعة من وبر الجمال وجلد الماعز.

كان هناك العديد من الأغنام والحيوانات تحيط بالخيام، وبلغَنا بأن الشيخ سوف يغادر هذه البقعة – بعد أن تنتهي حيواناته من رعي الحشائش الموجودة – إلى بقعة أخرى أكثر خضرة لترعى الحيوانات فيها. كانت حياتهم صحراوية هادئة متمشية تماما مع الطبيعة الهادئة.

وقد أعدَّت لنا النسوة الأرض ومهدتها أمام الخيام استعدادًا لقدومنا، وكن يلبسن الثياب الطويلة والبراقع تغطي وجوههن. وتم إدخالنا في الخيمة الكبرى في ذلك المخيم حيث رأينا السجادة الشرقية مفروشة على الأرض، وعلى العمود الرئيسي للخيمة كان هناك سيفٌ معلق، وخنجر، وبندقية ومسدس([iii])، والعديد من الأحزمة المليئة بالذخيرة ونظارتَيْ استكشاف([iv]).

كانت الوجبة هذه المرة مؤلفة من دجاج مطهو بشكل لين، ولم تنزع الرؤوس عن الدجاجات([v]).

وكحلوى قُدِّم لنا الجراد، ولا بد أن الجراد كان مطهوًّا في الماء المالح، وأعتقد بأن أكل هذا الجراد يشبه إلى أي حد طعم الجراد الذي أكلناه في البحرين، لأن هذا الجراد يبدو وكأنه لا زال حيًّا، وكان علينا أن نأكله هكذا، وهذا أمر صعب، وبكل خفة التقطت الجرادات ووضعتها في جيبي، وشربنا القهوة والشاي بعد الوجبة، وبعد ذلك طلب منِّي أن أقرأ حيث كانوا يعلمون بأنني أحمل الإنجيل معي (وهو جزء من الكتاب المقدس)؛ لذلك تظاهرت بأنني أخرِج الكتاب، إلا أن الكلمات كانت محفورةً في قلبي >من يعرف نعمةَ الله والذي قال إن طلبتم الماء فإنني سأعطيكم ماء الحياة<.

وعندما نفدت ذخيرتنا من الأدوية والمعدات أصبح لزامًا علينا أن نرحل، ولذلك أنهينا علاجنا في القرى المجاورة، وبدأنا في إعداد حاجاتنا للسفر إلى القطيف. وكنا، أيضًا، نعالج المرضى أثناء رحلة عودتنا عند مرورنا بالقرى على طول الطريق، والذين دائمًا كانوا يطلبون منا أن نبقى لفترة أطول، أو يطلبون منا أن نعكف([vi]) على قرية أخرى لنعالج أخًا أو قريبًا لهم، أو يتعللون بأن الأطفال قد استفادوا كثيرًا من العلاج الذي قدَّمناه لأعينهم المصابة.

رتَّبنا لعودتنا إلى البحرين، ونقلنا سيارة الفورد على السفينة الشراعية. كانت رحلتنا وجولاتنا تلك موفقة، وعندما أتذكرها الآن بتلك الروائح المختلطة للبخور والفحم، وكذلك عندما أتذكر طعم القوة العربية المرة، والبسمات الرقيقة التي تطل علينا من وراء البرقع، ونظرات الأطفال البريئة؛ فإنني أحنُّ للعودة لعملي، وددت لو كنت شابَّة وقوية فلن أتردد بالقيام بها ألبتَّة من جديد على الأقل لأرى عزيزتي مدينة، ووجه الدكتور هاريسون بضحكته المسنتيرة (كانت خدمتُنا خدمةَ محبَّة وصبرُنا صبرَ أمل).

————

([i])الظاهر أنَّ المقصود: إطارات السيارة انغرزت في الوحل.

([ii])هذا الوصف ينطبق على طريق قديم كان يُؤدِّي إلى عنك وسيهات، قبل طريق العيَّاشي، الذي شقَّه مؤسس بلدية القطيف وأول رئيس لها في هذا العهد؛ خالد محمد الفرج (رحمه الله)، وكان مسارُه يبدأ من مكان يسمِّى جامع الحليب، عند مدخل بلدة الكويكب من سوق الجبلة، ويخترق البلدة مجتازًا نخيل الشويكة، والعياشي منتهيًا إلى الساحل عند نقطة تسمِّى الخميسية، ومنها يتجه السائر جنوبًا إلى عنك وسيهات. وكان لكلا عنك وسيهات مرفأ صغير وجمرك أدركه كل معاصريَّ، والظاهر أنَّ مبنى الجمرك بمرفأ عنك هو الذي رأته (كورنيلا). الطريق موجودٌ إلى الآن، لم يتغير إلا أنه ردم البحر عند نقطة الخميسية من شرقها، وحول إلى مزارع ومستودعات المجيدية. جدير بالإشارة إلى إن عنك كان بها حامية تركية ترد الإشارة في مدونات وقعة الشربة، وبها مركز لتجَّار اللؤلؤ  (الطواويش)؛ حسب ما يروي الآباء.

([iii])سيف وخنجر ومسدس كتبت في الأصل منصوبة بالألف كما لو أنها خبر كان.

([iv])ناظور (منظار مقرب): Binoculars.

([v])لم تذكر الكاتبة أيَّ نوعٍ آخر من أنواع الإدام قُدِّم إليها خلا الدجاج، حتى في المراعي حيث يتوافر أفخر أنواع اللحم، والعلة أنَّ الدجاج آنذاك هو أفخر ما يقدَّم للضيف، على وفرة الأنواع الأخرى، كالسمك واللحم والإربيان (الربيان)، ومما لا يعلمه أبناء اليوم أن الأخير كان أحقرها لديهم؛ لوفرته ورخصه، حتى أنهم يعدون تقديمه للضيف عيبًا كبيرًا، ومما يتندرون به أبيات لأحدهم يقول فيها:

يم الحسن يا ام لحسان

كولي لزوجش يعمل احسان

لا يخلي العشا ربيان

والسوك فيها لحم خرفان

والسمك بيعه بغير ميزان

([vi])كذا في الأصل ولعلها: ننعطف.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×