موتٌ عَابِر

محمد الحميدي

 

تَلاشى، اِجتازَ سماوَات، لَم يحلُم بِمثلِهن، عواصفُ شَمسيَّة، وشُهُب، وقمرٌ مَائل، مَشاعرُ الكَون، لا تسعُ ما بهِ من أَلم، كأنَّ صوتاً قادماً من أعمَاقِه، آخذٌ بالتَّواري، فلا شيءَ يبدو حقيقياً، إنَّها الكَينُونَةُ في تجلِّياتها الباهِرَة، حينَ تنصدِمُ بوعيٍ حَاد، وأَرَق، لا مثيلَ لهما، فلتَهنأِ الرِّيح، وليَهنأِ الغِياب، وليَهنأِ الموتى في قُبورهِم.

لا بدَّ من خُطوةٍ تسحقُ الموت، وتُلغي قابليةَ العودةِ للحيَاة، تلكَ الرُّزمَةُ المُسماةُ خَطأً: كَينُونَة. ما هيَ؟ ومن أجلِ أيِّ شيءٍ وجِدت؟ وإلى متى يستمرُّ الوعيُ بوجودِها؟ أَم هيَ وُجودٌ مُطلق، وأبدِي، بحدِّ ذَاتها؟ وكيفَ تُوصفُ؟ ومَا آثارُها بينَ خُطوَتين؛ عَالِقة، وسَالِكة؟ أَم هيَ هَباء، كَهباءِ الأحلَام، تغتالُ الفَرد، في الوُجود، وتُفارقُه، حينَ العَدَم؟

أسئلةٌ مَصيرية، وكثيرٌ من الهَمس، يتصاعدُ دُخانُهُ من مِئذنَة، والجلاءُ الوشيكُ عنِ الحيَاة، يرتطمُ بِصخرَة، لا سبيلَ لِمعرفتِها، أو إِدراكِ كُنهِهَا، هيَ بكلِّ تجلِّياتِها، ووضوحِها، ليسَت أكثرَ من عبارَاتٍ غَامِضة؛ عُكَّازَة، تُراوحُ مَكَانها، تتلكأُ السَّير، وتَنجرِف، إذا حَادتِ الرُّوح.

أنا، ضَياعٌ تَام، وبقاءٌ مُستمر؛ عَالقٌ في مَرمى نِيرانِها، حينَ تُصوِّب؛ أَنتحي إلى الخِباء، وأشدُّ جُرحي، باحثاً عن مَهرب. كَم سُؤالٍ مرَّ، وارتطمَ بي، ثمَّ انتهَى إلى لا شَيء. الوجودُ أَسئلَة، والإجابَات؛ محضُ خُرافَات، لا يغرِفُ حَساءَها، سِوى قِلَّة، من العَارفين.

سَلكتُ إلى دَاخلي، واجتزتُ عَتبَة، كي أَلتقيَ بإجابَاتي، فلكلِّ فَرد، إجابَات، لا تَلتقي وإجاباتِ آخر، ثمَّةَ انبِهار، يَستولي عَلى أَطرافي، وسُلُوك، لا أرغبُ برؤيتِه، كأنَّ القدَر؛ يتربَّصُ بي، إن كانَ ثمَّةَ قدَر، في هذهِ الزَّاويِةِ من العَالم. أشعرُ بكلِّ الأشيَاء، ولا أشعرُ بِشيء، فلتَأخُذني الرِّيح، ولتُمسِك بي السَّمَاء.

لَو في رأسيَ عَينان؛ أدركتُ فوراً خَطيئتي، لكنَّ الأعمَى، يَرى بقلبِه، وأنا، لا أمتلكُ واحداً. أنطَلِق، كَما وُلِدت، نحوَ خُلاصةِ الأشيَاء، نحوَ المعنَى العميق للوجود، هناكَ أموت، وأحيا، أحيا، وأموت. هَذا الذي أربكَ المُفردات، وجَعلَها قابلةً للتآويل. أتِيه، كُلَّما مرَّت مُفردة، أو صَادفَتني عِبارة، أوِ انمَاثَت رُؤيا، في جسدي.

هَذا الجسَد؛ ثوبٌ ارتدَاني، وصيَّرني وعياً، وأَحالني فَوضى. مُؤامرةٌ بَارِعة، وحَبكَة، أتفلَّتُ منها، ولا أتمكَّن. الحقيقةُ قَارة، وحقيقَتي، تَرى الأشيَاء، ولا تَراني. إلى أينَ تسلكُ بي، أيُّها الجسَد؟ وأنتَ تُدركُ خُلُوِّي، منِّي، وتُدركُ أيضاً: المعنَى؛ جزيرةٌ غَارِقة، الهروبُ منها، مُستحِيل.

خُذ يَدي، وأوصِلني إلي، لِتتلمَّسَ المسلَك، بينَ جَنباتِ الوُجود، وتكشفَ سرَّ الكَينُونَة، فالرُّوحُ ضَائعَة، ما عادَت تَستقِر، لِوحدِها، إذ لفَّها الخُواء، فانبهرَت؛ أَنهكَها، ولا تَستطيعُ الرُّجوع. خُذ يَدي، وتقدَّم، فالشعلةُ احترقَت، وصارَت رماداً، وهَا تَتُوقُ؛ كي تُبعَث، من جَديد.

وحدَهما؛ الكُوَّةُ المُنهمِرة، والبيَاض، يُخفِيانِ الأَلَم، وأنا، بما أحملُ من حُزن، أَتجهُ إلى الدَّاخل، وأتبيَّنُ الطَّريق، عبرَ مَشاعرِ اللهفَة، والعُزلة، والعمَى. أتركُ الفائضَ منِّي خارجاً، وأدخُل، هَا أنا، أضعُ يَدي، وأشعُر بثقلِ الأسَى، والنُّبُوة، والخَليقَة، ثمُّ أبحَث، عن بَاب؛ لِلولُوج.

تَرسَانَة، حَشد، وهجٌ لامِع، وصوتٌ هامِس، يخترقُني: أيُّها الآدمِي، اِذهَب، وألقِ جسدَكَ جانباً، فالمرايَا، تُحيطُك، وتُحبطُ أيَّ مُحاولَةٍ لِلفِرَار، فمَا دُمتَ بَلغتَ المعنَى، فعليكَ التريُّث، والانتِظار، وتذكَّر: العرَّاف، لا يحتاجُ عَينين؛ كي يَرى.

أرَاها، أرَى كلَّ شَيء؛ تَتفتَّح، وحولَها هالَةٌ من بيَاض، أتعجَّبُ: الأعمَى يَرى! ثمَّةَ بُرعُم، حَلقةٌ حمرَاءُ تَنمُو، وتكسِرُ حاجزَ الضَّوء؛ لتُصبحَ وردَة، في اللا مكَان، واللا زمَان. الآنَ أوضَح؛ بلونِ الشَّفق، والهبَاء؛ يمتلِئُ بالمعنَى، وأنا وحدِي، القادرُ عَلى إمساكِه. أسرِع، فالمعنَى يهرُب، أسرعَ من نَجم.

الكَينُونَة؛ جَائزة، يَحملُها، ويتوحَّد، ويتَّحدُ بها، هيَ أروَعُ من لا شَيء، وأعمَقُ من أزَل، وأوسَعُ من سمَاء، فلتَهنأ، أيُّها الجسَد، فمَا عَاد يَسكُنك الخُواء، فلتَهنأ، ولتَكتُب مَراثيك، ولتَنزلِق نحوَ الوُجود، فالمعنَى، كُشِف، والهبَاء، أُزيح، والعينُ الثالِثة؛ باتَت تَرى.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×