الأعمى.. يَرى
محمد الحميدي
متاهَة، لا يحدُّها الوَصف، ساعةَ فَراغ، أو لحظةً فقدَت توازنَها، وانهمرَت كالمطَر، لا بَأس، فاللباسُ ارتمَى خارجَ الجسَد، وعليكَ الركونُ للمعرفةِ الناقِصة، لستَ أحدَ الكاملِين، فالثيابُ التي سترَت عُريك، وعريَ العالم، انتزعَتها يد، وغادرَت إلى الأبَد.
الجسدُ الدَّامي، والممزَّق، وروائحُ الموتى المنبعِثة، عادَت أسرعَ من رصاصةٍ طائِشة، ما أبرَع الصانعَ الحاذِق! حين يَنسجُ خُيوطَ اللعبَة، بِمهارةِ مَلاكٍ ساقِط. العينانِ الغائِمتان، لا تَريَان، ما بينهما وبينَ الوجودِ اختفى، وأنت، أنتَ لحظةٌ فارِقة، جاوزتَ ساعةَ الصِّفر، ونوايا الآدميين.
لا يسقطونَ عبثاً، هؤلاءِ الموتى، ثمَّة سببٌ وجيه، يدفعُهم لِتجربةِ الموت، ولأنَّك ساقِط؛ كالبقِية، المعاناةُ بانتظارِك، والجحيمُ فرِحَ بقدومِك. منذُ الأزلِ، وأبوابهُ تصطَك، وتصفِق، لم ينل هدَاياه، أو زيارة، من أقاربِ الشياطين، لستَ الأول، ولن تكونَ الأخير، فتهجَّأ اسمَك، وادخُل، الجميعُ يترقَّبُ وصولَك.
وعندَ افتراقِ الشِّفاه، يدٌ تمتدُّ، لتسقيكَ الجُرعة المُسكِرة، قَد أفلتَ الموت، ومرَّ ناحيةَ الغِياب، لا شيءَ بينكما، بعد، وعقيدةُ التوحُّد، أجَّلت رحيلَك، لبُرهة. حَيرة، عيناكَ فارغتَان، ولسانكَ تدلَّى؛ كذِئب، يستلذُّ الندَم، ويتمنى؛ إعادةَ اِلتئامِ القُروح، وأنت، ما عُدتَ أنت.
لا تَرى، أجَلتَ رأسَك، ثمَّ تراجعتَ خُطوتين، قدَّمت رجلاً، وزحفت، لعلَّ الظلام المرّ، لعنَة، وعليكَ التَّعثرُ، ببوابَة؛ تعيدُ إحياءَ الموتى. تتلو ترَانيمك؛ ما تعلَّمت، من دياناتِ المشرق، وأراجِيزها. العجزُ، أصابك، وأصابَ اللغة، أنتَ حبيسُ أنفاسِك، صوتِك، حنجرتِك الموتورَة، أكملْ ترَانيمك، فرُبما استفاقَ الموتى، ورتَّلوها مَعك.
همساً، كهبوبِ الريح، أتَاك، تتأملُ أُذنيك، وتتساءلُ: أ هُما اِستطالتا؟. رأسُك، تمرُّ يدُك في جِهاته، فلا تشعرُ بأيِّ اِختلاف، لماذا الحيَاة، تَبدو أكثرَ غرابة، حينَ تنهشُكَ الصُّعُوبات، ويغتالُكَ صياحُ الدِّيكة؟ تمرُّ يدُك ثَانية، تريدُ التأكُّد، أنَّ رأسَك، لا زالَ يَعمل، كَما يَنبغي.
المفاجَأةُ! أُذناك، غَادرتا، رأسُك؛ رُخامَة، ولا سبيلَ لِدخولكَ عالمَ الناطقين، حيرةٌ تَنمو، لتصبحَ قاتِلة؛ المقتولُ أنت، والقاتلُ أنت، سَقطتُك من العُلوّ، جعلتكَ تفقدَ حقيقتكَ الآدميَّة، لا تَدري! ومن يَدري إذن؛ أ في عالمِ الأموات، بِتّ، أمْ سلكتَ سبيلَ النائِمين؛ يحلمونُ بالمستقبَل، ويتراشقونَ الفُكاهَة؟
عادَ الهمس، فأصَختَ بأُذنيكَ الرُّخاميتين. ولعُكَ بالرؤية، أنسَاك، ودنَّسك، تودُّ التصديق، فيمنعُكَ الكبريَاء، ويخاتلُكَ الألم، تتعاظمُ الحَيرة، ولا تَنجو منها، فبينَ قَبيلتين؛ قبيلةِ الرؤية، وقبيلةِ السماع، أنت مُتجزِّئ، وغيرَ مُستقر، تُداهمك الهمُوم، فتقررُ البُكاء، ولا تَستطيع، تَنذهل، وتكتشفُ عَماك!
هواجسُك تَجيء، فجسدكَ عاجز، والظلامُ أبدِي، ورحلتكَ التي اِنطلقَت تواً، توقَّفت! إلى أينَ ستمضي رِجلاك، وأنت لا تمتلكُ عينين؛ كبقيةِ الآدميين؟ صاعقَة، وأرتالُ رُعود، ومطرٌ يأبى الهطُول، تلكَ حياتكَ الآن، وما من مَعبر، إلا البُكاء، ولا عينَ لديك؛ كي يهطلَ!
تجهَش، وتندبُ الحظَّ العاثر، ثمَّة صوت، دونَ أنْ تشعر، يهمسُ بحرارةِ المطر، وكبرياءِ الريح، ينادي أعماقكَ القاحلة: أيُّها الآدمِي، أنت، أيُّها المعتمُ جِداً، هنا، أراك، وأقودُ خطوكَ العاثر. تستجيبُ للنداء، أخيراً، حينَ تبتعدُ العاصفَة، وتسألُ: مَن أنتَ؟ ومن أيِّ مَقبرة أتيت؟
تجيبُ: أنا أنت، لكنَّك أعمى، ولا تَرى إلا العتمة. تسألُ: وكيفَ انسربتَ منِّي؟ فتجيبُ: حينَ فقدتَ عينيك، غادرتُك، فأنا أناك، وبصيرتُكَ المشرقة، والروحُ الهائمةُ بداخلك. يغتالُكَ التعجُّب، وتسألُ: أ أنا الآن، جسدٌ بلا روح، ومركبٌ بلا قبطان؟ يجيبُكَ: هيَ الحقيقة، ولا حقيقةَ سواها.
تتصَالحان؛ أنت وأناك، تُحادثها، وتتعرفُ حَقيقتها، وخطَاياك، تُدرك؛ أنْ لا رفيقَ إلَّاها، ستُمضي أيامكَ الباقية؛ معها، لِذا؛ عليكَ تعلُّمُ الإصغاء؛ لِصوتها، هي مَن يقودُك، أنت تطيعُ تَعاليمها، فقط. تَسألها: أ أنا مَيت؟ فتخبركَ: الموتى لا يتحدثون، أنت الآنَ تجتاز عتباته، فَحسب، ونجاتُك؛ رهنُ إصغائك. فلتمضِ.