[كتابة] محمد الحميدي: أوَّلُ عابرٍ جاوزَ العَدم

محمد الحميدي

اشربْ أيُّها النائِم، افتحْ فمكَ رويداً، وادلُق جُرعةَ السُّكَّر، دفعةً واحدة، فالهاويةُ التي أطلَّت من العلوِّ، باتت مِشكاةً، تضيءُ لغاتٍ، غيرَ مألوفةٍ، لا يعتادُ الآدميون الحديثَ، بمفردهم، همُ اعتادوا الحديثَ، جَماعَة، تلكَ الجماعةُ نفسُها؛ التي هربتَ منها. أيُّها النائِم، اشربْ، ولا تُفِق، فالآدميونَ يخافونَ السقوط.

آهةٌ، تنهيدةُ البَدءِ، عُواء البحرِ، مريماتُ الغِواية، هنالك البدايةُ، والنهايةُ، هنالك السقوطُ، والأملُ، هنالك الشيءُ، واللا شيء. النزيفُ الحادُّ؛ سكينٌ مُشرعة، ولا حدَّ للألم، عينانِ خبيئتان، يحجبهما الطَّمي، وتطمسُ هالةٌ بيضاء، ما يُرى، المسافةُ شاسعة؛ محضُ شبرٍ من كلام، وإصبعٍ من سكوت.

سفرٌ خيالي، وساحرٌ يجول. داخل الأعماق، أ ثمَّةَ بُرهةٌ للتأني؟ أثمَّةَ خارطةٌ ضائعة؛ لاكتشافِ الفرق، بينَ هاويتين؛ هاويةِ السقوط، وهاويةِ اللا سقوط؟ بينهما، أنتَ وحيد، وعَتمةٌ تلتهمُ عينيك، بينما الطَّمي؛ عبورٌ لعالمٍ لا معقول، أينَ أنا؟! وما سببُ سقوطي؟! وإلى أيِّ اتجاهٍ أسير؟!

أسترجعُ ذاكرتي الصَّدئة، أمرُّ بالوقتِ، خفيفاً، وأنوحُ، جهاتي السِّت، تئِن، ورجلاي؛ مِثقالا فولاذ، أتذكرُ سقوطي، ولا أتذكرُ اسمي! متى أصبتُ بالنسيان؟ لا حدَّ للخرافة، حين تشتعلُ نيرانُ الهوادج، أو، حين يهربُ الآدميُّ من قدره، لا حدَّ، ولا فرقَ، بداخلي شخص لا أعرفه، من أنا؟

قليلٌ من الحظ، كثيرٌ من أحاديثِ الألوهَة، يتضاءلُ الدَّمُ النازف، والهالةُ البيضاء، فرَّقتها يد، لا تجيدُ استماعَ الصراخ، ما أشقاني! أنا الساقطُ من هاويةِ الليل، والبحر، وقيثارةِ عازفةٍ ماهرة، ابتعدتُ عن العالم، واقتربتُ من لُغتي، أستمعُ للصدى، يعود، ها أنتَ وحدَك، الآن!

أرى، ولا أرى؛ أرى قعرَ البئر، ولا أرى الدَّلوَ؛ مانحَ الحياةِ؛ لأمثالي، أرى قافلةً تبتَعد، وأخرى تقتَرب، ولا أرى دمِي، وهو يَنزف؛ لِيسقيَ الأرض، أرى عينينِ فارغتين، ولا أرى الأنفَ، واللسانَ، والحنجرةَ، أتحسَّسُ بأصابعي، أجدُ قافلة، ترحل، حاملةً مشاعِر، وأحاسِيس، ورغبات، تَذهب، وتعودُ فارغة.

الرائِحةُ؛ كائِنُ الدهشةِ والقَلق، الرؤيةُ؛ كائِنُ المتعةِ والمعرفة، أشتمُّ ما لا أرى، وأرى ما لا أشتمُّ، يزدادُ نفاذُ الرائِحة، فتزدادُ الهالةُ البيضاء، فوقَ عينيَّ، تزولُ الرائِحة، فتزولُ الهالةُ البيضاء، بينهما، أنا جسدٌ؛ قَلِق، فاقدٌ للمعرفة، أنطَوي إلى الداخِل، وأبكِي، فالمشهدُ لا يُطاق!

أرى وأبكِي، أبكِي وأرى، الرؤيةُ والبُكاءُ توأمُ رُوح. أرى جسدِي الممزَّق، انتفضَ، وغادرَ العتمَة، بينما رأسي عَالق، بينَ حُبيباتٍ صَخريةٍ لامعَة، أنتفضُ برفقةِ الجسد، وأعجزُ عن حملِ الرأس، يا للمأسَاة! جسدٌ ممزَّق، ورأسٌ عَالق، وما بينهما؛ عينٌ ترى، وتبكِي.

لا طاقةَ لديَّ الآنَ، القوافلُ تسرقُ من جسدِي، ما تشاءُ، ورائحةُ الموتى، تنبعثُ حولي، وأشلائِي؛ شمسٌ غَاربة، توشكُ على الاختِفاء، وأنا، ما أنا؟ لستُ إلا لحظةً أبديَّة، غارقةً بالتفاصِيل، ولاهجةً بالعَبث، سأصرخُ مِلءَ حُنجرتي، لكي يستمعَ العالم؛ لعلَّ أحدَ الآدميين، يستمعُ النداء، ويأتي لنجدَتي:

هاربٌ، من ظلٍّ لظِل، والصَّدى، رحلةُ صوت، وأنا، بيني وبيني، جسدٌ، عَالقٌ، ورميةُ نردِ، ها أنا، ملأتُ الكون، ضجَّةً، وأسرابَ بُؤس، فاسمَعي يا ريَاح، والطُمِي يا نجُوم، إنني هَارب، من بؤسٍ لِبؤسي، والصَّدى، رحلةُ صوت، زَلزلت في البئر جِسمي، فاسمعيني، والطُمِي.

أ ثمَّةَ صوتٌ، من الأعمَاق، آتي؟ دعوةٌ بَاذخة، ورائِحةٌ لا تُطاق، كأنَّ التَّوحُّد، نسغُ الخلِيقَة، وشريانُ دَيمومتِها، أُحسُّ بالموت، أقربَ من هَاوية، ولا أرغبُ الانفِلات، عن سُنن الطبيعَة، جَسدي الممزَّق، ورأسيَ العَالق، خلفَ سارية، يتوقُ لما لا أُريد، الموتُ أقربُ، والحياةُ هي اللا وجود، وأنا أفقدُ ذاكرتي.

غيابٌ بحجمِ الأسى، فذاكرتي تَخبو، وأحلامُها انطفَأت، والجسدُ الدَّامي، ليسَ أكثرَ من قصةٍ بَالية، أ ليسَ الجحيمُ، هاويةً هاوية؟ أغيبُ، وأشرقُ في داخلي، أغيبُ، للمرَّة الألف، وألتفُّ حَولي، لأسكبَ دمعتيَ البائِسة، ما أخرسَ الصوت، إلا هذهِ الهاوية!

أحملُ بؤسي، وأغفو، وحيداً، أنتظرُ الموتى، يحيطون بي، من عَتمةِ البئر، حتى اشتدادِ الألم. أنا جَاهز، لأغادرَ العالم، دُون ضجَّة. اشربْ أيُّها النائِم، وادلُق جُرعةَ السُّكَّر، دفعةً واحِدة، أوجاعُك انتهت، والوجودُ لكَ اِبتسم، اشرَب، ولا تخشَ، أنتَ أولُ عابِر، جاوزَ العدم.

 

10 يناير 2019م

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×