[كتابة] محمد الحميدي: لِتبدأ أيُّها الآدميُّ اصطيادَ الوجود
محمد الحميدي
كأيِّ عاصفةٍ تهبُّ، تُريكَ ما لا يُرى، الأرضُ جرداءُ، والمحاصيلُ مبلَّلة بدموعِ العصافير، ثمَّة قُبَّرة تهربُ من واقعها، اللجوءُ للشاطئ متاح، إنَّما، ليس الآنَ، حيثُ الليلُ أرخى جناحيه، واستفاقَ القمرُ، ها أنت وحدك تعبُّ الهواء المرَّ، وتلهو بشجرة الخطيئة.
الشاطئ أبيضُ، وما من سمكة هاربةٍ، إلا والتجأتْ إليه، هل أتقنتَ صناعة المعنى؟ بينما تمرر حيلَ الكلام، والليلُ، رحيلٌ أبديٌّ، ظُلمة معشبةٌ، فيه تنتهي الحكايات، ثم تبدأ من لا شيءَ، والمعنى، تلك السمكة الهاربةُ، ما زال الوقت بِكراً، كي تصطادها.
الشَّرك جاهزٌ، ألقِ ما في يديك، واحصد أسماكَ الليل، فالقمرُ، حين تهبُّ العواصفُ، وتسترسل الحورياتُ بالغناء، يغدو الشاطئُ مُلكاً؛ لمن يُجيد الكلامَ، تكفيك نبوءةٌ واحدةٌ، واحدةٌ فقط، لِتكونَ صادقاً، لكنَّك، تبحث عن كلماتٍ، مناسبة، ولا تجدُ، ابحث عنها، ذات ليلةٍ، أو ذات شاطئٍ.
لِتضع ساعةَ الرَّمل جانبا، فالوقتُ أبديٌّ، كالليلِ، ولتحزم حقائبَ الحزن، ألقِ بها ناحيةَ الأسماكِ الجائعة، فالمهمةُ التي نذرتَ نفسَك لإتمامها، ما عادت قائمةً، بعد إعلانك العجزَ، عن النُّطق، النبوءةُ التي بُحتَ بها لذاتك، تعجزُ عن إطلاقها، والشاطئُ ممتدٌّ، كما الوقتُ، بانتظاركَ.
ارتعاشُك، مصيرُك المعلَّق، قوافلُ السَّمك، أجنحةُ الليل، هنالك غضبٌ ينمو، أينما حللتَ! ثمة قانون مسروقٌ، إبرةٌ ضائعة، ولا أحدَ شاهدٌ على ما ترى، أينما حللتَ! تولدُ قبيلةٌ، وتغادرُ أخرى، كأنَّ الزَّمن، منذُ الأزلِ، بدمٍ ساخنٍ، دمِك أنت، ودمِ قبيلتك الشاردة، مكتوبٌ، بلغةٍ مختلفة.
أنسيتَ اللغةَ؟ تحدثتَها طوالَ طفولتك، لا تذكرُ! كاذبٌ أنت، ومخادعٌ أيضاً، يا لبراعتك! تُخفي ما يدور برأسك، مِن تضاريسَ، منَ السَّهل إمساكُ الهواء، ومن الصَّعبِ جداً، إجباركُ على النُّطق. لمَ طريقكُ مفروشٌ بالشوك؟ بينما النجومُ، تنامُ، وأرجلها معلقةٌ، في الفضاء!
ها أنت تستعدُّ للرحيلِ، فليس بيدك خيارٌ، وصخرةُ الحقيقةِ، الأمواجُ تصطدمُ بزعانفها. القمرُ حزينٌ، والليلُ يبحثُ عن أهدابه، وأنتَ، أنتَ وحدَك، أجدتَ ابتلاع المعنى، ثم سكبتهُ داخلَ القوارير. لِتكن رحلةً سعيدةً إذن، ولتستمع إلى أشجارِ الطريق، ومناراتِ المدن، فلا رائحةَ تعلو، فوق رائحةِ البحر.
اللقاءُ بالليلِ، والبحرِ، والريحِ العاصفة، وصخرةِ الحقيقة، شرَكٌ منصوب لأمثالكَ، وهم يهيمون، على أرجُلهم، بين أسطُرِ الوجود، لا بدَّ للكلمة من معنىً، ولا بدَّ للمعنى من شجرةِ الخطيئة، احذر سلوكَ أبيكَ، فآدم حين اكتشفها، أغرتهُ، وأيتمتهُ، فجعلتكَ ابنَه البارَّ، احذر تُفَّاحها المتدلِّي، واهرب إلى ذاتِك، لعلَّك تكتشفُ حقيقةَ المعنى، وعِنَبةَ الخلود.
هنا، لحظةُ الرحيل، أفقُ المستحيلاتِ، ينفتحُ، فالجحيمُ على مصراعيه، يهبطُ من الأعلى، وولولةُ العصافيرِ، ما عادت تجدي، إذِ اتَّسعت زوايا التراتيل، وبات الإصرارُ حليفَك حين تغيبُ، أيها الباحثُ عن الحقيقة، ولا حقيقةَ أمامك، إلا السرابُ، فما تراهُ من الوجود؛ وصمةَ عارٍ، ورعشةَ كائنٍ، ولثغةَ أفعى.
المفاتيحُ بانتظارك، لا تتمهل. أكمل خُطاك، وانطلق نحو المجهول، عُد غداً، أو بعد عامٍ، أو لا تعد، لا جدوى من الرحيلِ، إذا عدتَ دون رؤيا، أو فقدتَ عينَك، وأنتَ تخاطبُ الشمسَ، أو تلهو مع القمر، أو تتعكَّزُ الأعذار، لا تعد إلا كعاصفةٍ، تهبُك ما يُرى، وما لا يُرى، فالشاطئُ لا يطيقُ الانتظار.
يحملُ خدَّيه، وأشلاءَهُ، وينطلق مع الظلِّ، يتوقُ لنبوءةٍ واحدةٍ، ليعودَ سريعاً؛ ناحيةَ البحرِ، والمعنى، ورائحةِ السَّمك، شِباكهُ خاويةٌ، ثمَّة كلماتٌ موصدةٌ، بداخل لسانه، وفمهُ، جرَّدته النبوءاتُ من النُّطق، ليس له أن يتحدثَ! طالما أمسكته الثعالبُ، واستوطنته الذئابُ.
والبحرُ، رفيقٌ مثاليٌّ، يقوده نحو الهلاك، فالأسماكُ، تغوصُ في أعماقهِ، وتتكاثرُ، وما من مَعبرٍ آخرَ، إلا البحرَ نفسَه، للوصول إليها، فليبقَ الشاطئُ، حبيسَ المرايا، ولتنجرف صخرةُ الحقيقة، وشجرةُ الخطيئة، إلى الأعماق، ولتبدأ أيُّها الآدميُّ، رحلةَ الغوصِ، نحو المعنى، ونحو الذات.
27 ديسمبر 2019