محمد الحميدي: أن ترى بعين واحدة.. ما لا يُرى
محمد الحميدي
سرابٌ تشاهدُ نصفَه، الآنَ، أمام عينيكَ، النصفُ الآخرُ، تجد آثارهُ في خطوات الأشخاصِ حَولَك، لديك عينٌ واحدةٌ، بينما يمتلكون ثلاثين عيناُ، أو أربعين، أو ألفاً، لا فرقَ، منهمكٌ تؤدي واجبك المقدَّس، بينما ينتظرون نهشَ عِظامك، حين تغمضُ عينك الوحيدة.
بَحّ صوتك وأنت تنادي الآخرينَ. لعلَّ واحداً استجابَ.
لا، هم مشغولون بترفهم الباذخ، أمَّا أنت، أنت وأنت فقط، وحدكما، تنشغلان بالرؤيا، كعرَّافٍ تخرجُ برداء عتيق، صوفيٍّ أخيرٍ على سطح الكوكب، تنهمك بالنجوم، تقرأُ الطوالع، وترى نحس النصوص، وسَعدِها، فالعين التي تمتلكها، ترى الكتابة فحسب، ولا شيءَ آخر.
أصعبُ ما تواجهُه؛ أحلام بيضاء، غائمةً، ليس بينها ما يُمكن قراءَته، النَّظر إلى الطوالع لا يُنجب كلمات كافيةٍ، تعود إلى ذاتِك المختبئة، تستفسرُ، وتغضبُ، أهنالك محوٌ، أم لشدَّة الوضوح؛ ما عدتَ ترى؟! ذاتُك المختبئةُ، حجاب الكثافة حاجزٌ ماهرٌ، نصَّبته الأيام، وأنت وحدك من تسعى إلى محوه.
ستمحوهُ، أم ستمحو ذاتك؟ ههنا امتحانُ العُسرة، بين ذاتك وذاتك، ذاتٌ تسكن الجسد، وأخرى ترتدي الجسد، ولا تسكنه، بينهما أنت قِمَّةُ الحَيرة، أيَّ ذات تختارُ؟ إمَّا البقاء بعينك الوحيدة، أو فقْأها! والانضمام لجوقةِ المتفرجين، الآنَ أنت وأنت، وحدكما، وعليكَ إنهاءُ الحَيرة.
لا خِيارَ، والأفقُ لم يتَّخذ صِفة التلاشي، ما تراه؛ مجرد كلماتٍ بيضاءَ، غائمةٍ، والمعنى، تلك الدلالة الخالدة، ليست متوفرة إلا بداخل حانوت العرَّاف، أيْ أنت! وحدكَ استطعتَ الرؤية، ووحدكَ اجتزت باب التآويل، فانفتحت أبوابُ الرؤيا على سجادتك الفارسية.
ماهرةٌ ذاتك، حين تمحوك، وتمحو بقايا الآخرين، فالعرَّاف يقرأ الطوالع، ويشاهد اللغة القديمة كيف تتشكَّل، كلمة كلمة، لا شأن للوقتِ، ينساب بمفرده دون انتباه، وأنت ـ أيها العرَّاف ـ لماذا عينك الوحيدة ما تزالُ مغمضة؟ فلتفتحها قليلاً، قليلاً جداً، ولتُشاهدِ اللغة كما أنجبها آدمُ، وتزوج بها حوَّاء.
عينك الوحيدةُ، بوابتُك للدخول إلى الرؤيا، اسمحْ لِذاتك المختبئة بالسبات، أزِل ما بينك وبينها من حُجب، ولتكن رَهن إشارتك، فالوقتُ نزيفٌ مرٌّ، وثمرة مشتهاةٌ، تفقد نُضجها إذا أهملتَ تناولها، عينك الوحيدةُ فقط، ترى ما يُرى، وما لا يُرى، أيها العرَّاف العظيم.
الآنَ، تُغمض عينيك الجاهزتين، عينك الوحيدةُ ترى، وتقرأ الآتي، ما مِن حجاب يسترُ عريَ العالم! الحقيقةُ الهاربة، تنكفئ، ثمةَ ساحلٌ، ولا بحرَ يحدُّه، الأمواج العاصفة مرساة تتعكزها الحقيقةُ! لعلَّها تُفشل خُطَّتك لاكتشافها، لكنك لا تأبهُ لشيءٍ، تُصِرُّ لِترى ما لا يُرى.
وبعد مُكابدةٍ أليمةٍ، ها أنتَ والحقيقةُ وجهاً لوجه، متلاصقين كقنفذٍ، كُلَّما امتَنعتْ، غَرستَ إبرك الحادَّة بداخل قلبها، شهوةُ المعرفة تحيط بوجودك أيها الكائنُ الأسمى، العرَّافُ الذي يَرى ما لا يُرى، المعرفةُ وحدها، هدفُك الأثيمُ، ورحلتك، لا تنتهي عند عتباتها.
السقوطُ من البئر، فَخٌّ، احذر تسلُّقهُ، ثمةَ أسئلةٌ لا إجابةَ لها، تُصادف رحلتك، لا تبكِ، أو تغضب، لهدوئك رائحةٌ مختلفة، لا تجذبُ الآخرين، كُن هادئاً، وأكمل رحلتك نحو شاطئها، فالماهرُ، لا يستجدي الذئابَ، بل يشعلُ النار؛ ليبعدها، ويرى نهاية الطريق.
ما من نهاية ممكنةٍ، النهاياتُ شبابيكٌ وأبوابٌ، تَلجُها واحداً واحداً، وحين تعجزُ عن القفز، أو اجتيازِ أعتابها، أمسكْ يَديك، وارفعهما عالياً، ثم ابدأِ الكتابة، وحدها تُريك الطريق، ووحدها ترسم خطوطَ النهايات، ولا تبتئس، فالمحو حقٌ أصيلٌ، جرِّبْه، لتثق أنك لا تتوهم.
اكتب ما لا يُرى، ولتكن كالمجنون، عقلُه بيده، يتلمس درباً، ويسلكُ آخر، عينُك الوحيدةُ، مصباحُك السحري، يمحو الغبشَ، وتنجلي لديكَ ظُلمةُ الجهل، وتنقشع عن حقيقةٍ تامَّةٍ، اكتب، فكلماتك تسترُ عريَ العالم، وتضع حدّاً للنهايات، أيها العرَّاف العظيم.